ـ 1 ـ
في الجزء الأول من مقالة (المصادر القرآنية) ذكرت أن العقل الإنساني لا يمكنه القبول بأن القرآن منزل من الله بواسطة الوحي على محمد لما تضج آياته بالكثير من الأخطاء اللغوية والتاريخية والعلمية إلى جانب التناقضات الملتهبة داخل ثنايا النص. وبمناسبة التناقضات القرآنية أو ما يسميها المفسرون تدليلاً بالناسخ والمنسوخ، يذكر القمص زكريا بطرس أنه وبالرجوع إلى ما دوّنه المختصون المسلمون في الناسخ والمنسوخ أمثال الشيخ أبو جعفر النحاس وهبة الله البغدادي والمظفر بن الحسن ومحمد الضناوي فإنه يوجد في القرآن ما يعادل 62.28% من الآيات المتناقضة! بكلمات أخرى، حوالي ثلثي القرآن تلتهم آياته بعضها البعض. ولا ننسى أن هناك سوراً بقضها وقضيضها قام النبي محمد "باستعارتها" من شعراء الجاهلية (سنأتي على ذكرها لاحقاً)، وآيات أخرى "تطوع" الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب بإملائها على النبي دون التنويه إليها في حواشي السور كما تقتضي الشروط الأدبية.
شخصياً، أعتقد أن تعطش محمد للظفر بلقب النبوة فجر في داخله موهبة أدبية، تمخضت عن تأليف القرآن الذي لم يكن بالشعر ولا بالنثر ولكنه خليط من هذا وذاك. دع عنك ما يعتري القرآن من مشاكل ذكرتها سابقاً، إذ من المحال أن يكون محمد عالماً بالفيزياء والكيمياء والتاريخ والطب والفلك، ومن المحال أيضاً أن ينشأ القرآن من فراغ دون الاتكاء على مساهمات الآخرين بشكل مباشر وغير مباشر. وفي تصوري لو أن المسلمين – وهذا بعيد المنال – قطعوا هذه الشرايين السماوية التي تغذي القرآن بقدسيته، وتعاملوا معه في سياقه الأدبي البحت، لتحرر العالم الإسلامي من قيود التخلف والرجعية. ألا تجد أن كل صور الإرهاب الدموي ومعاداة التقدم والحداثة والعنف ضد المرأة والآخر تستلهم عناصرها من آيات قرآنية؟
ـ 2 ـ
لنكمل رحلة البحث عن مصادر القرآن مع القمص زكريا بطرس، فعلى ما فيها من أشواك تدمي قلوب المسلمين فإن فيها من الحقائق ما يكفي لإضاءة الزوايا المعتمة في عقولنا. لمزيد من الإطلاع يمكن زيارة الموقع الإلكتروني (http://www.islam-christianity.net/)
المصادر الإسرائيلية
يقسم القمص زكريا المصادر الإسرائيلية التي تسربت وبغزارة إلى القرآن إلى جزأين: أسفار العهد القديم (عددها 39 سفر بما فيها أسفار التوراة الخمسة الأولى)، والأساطير الشعبية أو القصص الخيالية اليهودية.
يعدد القمص زكريا بعض الأمثلة على ما أخذه القرآن من أسفار العهد القديم:
من سفر التكوين:
قصة الخليقة (سفر التكوين 25:1) "في البدء خلق الله السموات والأرض". وفي (سورة الأنعام: آية 73): "وهو الذي خلق السموات والأرض".
قصة آدم وحواء (سفر التكوين 1: 25-34) "خلق الله الإنسان على صورته وباركه". وفي (سورة البقرة: آية 39): "إني جاعل في الأرض خليفة".
قصة قايين (قابيل) وقتله لهابيل (سفر التكوين 4: 1 ـ 16) "وحدث أن قايين قام على أخيه هابيل فقتله". وفي (سورة المائدة: آية 34): "فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله".
وهناك قصص باقي الأنبياء مثل نوح، إبراهيم، لوط، يعقوب، ويوسف، جميعها تبناها القرآن من سفر التكوين مع إدخال بعض التغييرات على مستوى التفاصيل مع الحفاظ على جوهر الفكرة ولب القصة دون تحوير.
من سفر الخروج:
قصة موسى وفرعون ـ سور القصص، العنكبوت، ق، ص، الفجر، الحجارة التي تفجرت منها اثنا عشر عيناـ (سورة البقرة: آية 60)، المن والسلوى ـ (سورة البقرة: آية 57)، وعامود السحاب (الغمام) ـ (سورة البقرة: آية 57)، العجل الذهبي ـ (سورة البقرة: آية 51)، تجلي الله في الشجرة ـ (سورة القصص: آية 30).
من سفر اللاويين:
شريعة السن بالسن والعين بالعين (سفر اللاويين: عدد 14:14) تجدها في (سورة المائدة: آية 45).
من سفر العدد:
البقرة الحمراء (سفر العدد 19). تحولت إلى صفراء في (سورة البقرة: آيات 71:67).
من سفر التثنية:
تلقي موسى الكتب (سفر الخروج: 34). تجدها في (سورة البقرة: آية 53).
من سفر الملوك والأيام:
قصة النبي سليمان (سفر الملوك). تجدها في سور النمل والأنبياء وسبأ.
من سفر أيوب:
قصة أيوب (سفر أيوب). تجدها في سورة الأنبياء وسورة ص.
من سفر يونان (يونس):
قصة يونس (سفر يونان). تجدها في سورة يونس.
أما الأساطير الشعبية والخيالات اليهودية فقد وجدت هي الأخرى مكاناً لها في القرآن، وهذا ما حدا بقريش إلى نعت ما يرويه النبي من قصص على أنها من أساطير الأولين وذلك في أكثر من موضع في القرآن. ترى هل كان كفار قريش من الوعي لدرجة وضع هذه الحكايات في إطارها الأسطوري في الوقت الذي تعامل معها النبي كما لو كانت حقيقة فعلية؟ كتب الأساطير الشعبية وعلى ما يبدو تعرف بكتابات ما بين العهدين، وهي مرويات موازية للمرويات الكتابية (أسفار العهد القديم)، وكانت رائجة في الحجاز بفعل تواجد اليهود الكثيف هناك. ومن أمثلة الاختلافات ما بينهما أن الأسفار التوراتية تسقط من المشهد ـ مثلاً ـ ذكر إبليس في قصة إغواء حواء لآدم بالأكل من الشجرة المحرمة، بينما تلقي كتابات ما بين العهدين باللائمة على إبليس. وفي نموذج ثاني، نجد أن الأسفار التوراتية تغيب هاجر كلياً عند وصف رحلة إبراهيم وسارة إلى مصر، في الوقت الذي تقحم كتابات ما بين العهدين شخصية هاجر كهدية من فرعون، وربما كان هذا هو الخيط الذي تأسست بموجبه صلة القرابة بين العرب واليهود.
على أية حال، للنظر مع القمص زكريا إلى ما خلفته تلك الأساطير الشعبية من بصمات واضحة على القرآن. يحيل القمص ـ في معرض تأكيده على الاقتباسات القرآنية من الأساطير الشعبية اليهودية ـ إلى ما ذكره تحديداً أحد علماء المسلمين، وهو عبد الله يوسف علي (هندي الأصل) من أن القرآن تبنى صراحة بعض القصص الواردة فيما أسمها بكتب الفلكلور السامي. وفيما يلي بعض الأمثلة:
أسطورة تعلم قايين (قابيل) من الغراب كيفية دفن أخيه، (سورة المائدة: آيات 30-35): منقولة عن كتاب (فرقي ربي أليعزر: فصل 21).
أسطورة إلقاء إبراهيم في النار بأمر من النمرود دون أن يحترق، (سورة الأنبياء: آية 69): منقولة عن كتاب (مدراس رباه: فصل 14).
اجتماع سليمان بمجلسه المؤلف من الجن والعفاريت للتدبر في مسألة إحضار عرش بلقيس قبل وصولها، (سورة النمل: آيات 38-42): منقولة عن كتاب (الترجوم الثاني لسفر إستير).
شرب الملاكين هاروت وماروت الخمر وممارستهما للزنا وتعليمهما الناس السحر، (سورة البقرة: آية 102: منقولة عن كتاب (مدراس يلكوت).
رفع الجبل فوق رؤوس اليهود، (سورة الأعراف: آية 143): منقولة عن كتاب (عبوداه زاراه: الفصل الثاني 45).
أسطورة السماوات السبع، (سورة الإسراء: آية 45): منقولة عن كتاب (حكيكاه: باب 9، الفصل 2).
أسطورة اللوح المحفوظ، (سورة البروج: آيات 21-22): منقولة عن كتاب (فرقي أبوت: باب 5، فصل 6).
ـ 3 ـ
قدمت المعتقدات والأفكار والآثار المسيحية خدمات للنبي محمد في تأسيس القرآن كما فعلت المرويات اليهودية المكتوبة والشفهية. وبالمثل، يقسم القمص زكريا المصادر المسيحية إلى جزأين: الأناجيل الرسمية (لوقا، متى، يوحنا، مرقس)، والأناجيل (الأبوكريف) أو ما تسمى بكتب الهرطقة والأساطير الشعبية. ولنبدأ بالمصدر الأول، أي الأناجيل الأربعة:
العذراء مريم وبشارة الملاك:
(لوقا 28:1) "فدخل إليها الملاك وقال سلام لك أيتها المنعم عليها.. لا تخافي.. ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى.. فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا. فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك القدوس المولود منك يدعى ابن الله".
(سورة آل عمران: آية45) "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين. ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين. قالت ربي أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك..".
تعاليم المسيح:
(لوقا 25:18) "دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله".
(سورة الأعراف: آية 40) "إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط".
(لوقا 9:2) "ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه".
(مشكاة المصابيح: ص 487): "ورد في الأحاديث القدسية عن أبي هريرة أن محمد قال أن الله سبحانه وتعالى قال "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".
رفض اليهود له:
(متى 26:4) "وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه".
(سورة آل عمران: آية 54) "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين".
ارتفاعه إلى السماء:
(مرقس 16:6) "يسوع الناصري المصلوب قد قام ليس هو ههنا".
(سورة النساء: آية 158) "بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما".
أيضاً كان لما يسميها القمص زكريا بكتب الهرطقة تأثير مُوازٍ على القرآن. ومن أمثلة ذلك:
من هي مريم؟:
جاء في (سورة مريم: آيات 28-29) "يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا".
وجاء كذلك في (سورة التحريم: آية 12) "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا".
الواقع أن القرآن قد وقع في التباس تاريخي غير مقبول. فمريم أم المسيح ليست هي مريم أخت هارون وموسى. فالأخيرة يفترض أنها عاشت في زمن موسى والذي يرجعه القمص إلى 1500 سنة ق.م. أي أن بين المريمين حوالي خمسة عشر قرناً! الخطأ الآخر الذي وقع فيه القرآن أنه نسب مريم أم المسيح إلى عمران الذي هو أبو مريم أخت موسى وهارون، بينما اسم أبيها هو يواقييم وليس عمران!
كلام المسيح في المهد:
جاء في (سورة مريم: آيات 30-33) "قال إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا.."
كلام الصبي في المهد مأخوذ من كتاب (حكاية مولد مريم وطفولية المخلص: الفصل 20). والمثير أن تلك الحكاية تعود جذورها إلى أسطورة هندية عن مولد بوذا قبل المسيح بنحو 557 سنة، وهي موجودة في كتاب (ندانه كتها جاتكم: فصل 1 ص 50).
خلقة المسيح للطيور:
جاء في (سورة آل عمران: 41-43) "... إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله".
هذه الأعجوبة مستقاة من الكتاب الشعبي (طفولة المسيح: فصل 36).
ـ 4 ـ
يتضح لنا مما سبق أن لليهودية والمسيحية إسهامات جمة في تشكيل الذاكرة التاريخية للقرآن بما وفرته من ذخيرة قصصية استفاد منها النبي محمد في مشروعه الدعوي. الغريب أن النبي في مرحلة متأخرة من حياته هاجم الكتب المقدسة لتلك الديانتين متهماً الأحبار بتحريف الكلم عن موضعه. إذا كان النبي محقاً في اتهاماته تلك، فهذا يستدعي التساؤل عن مصداقية الآيات القرآنية الكثيرة التي كانت تمتح من أسفار العهد القديم والجديد. إذا كانت تلك الكتب محرفة فالمنطق يقول أن التحريف قد تسرب بدوره إلى الآيات القرآنية. إذاً ما الذي دفع الإسلام إلى الانقلاب على الديانتين الشقيقتين (= اليهودية والمسيحية)؟ اعتقد شخصياً ـ ربما أكون مصيباً أو مخطأً ـ أن المهتمين بدراسة الأديان يمكنهم ملاحظة ظاهرة بارزة تتمثل في أن الدين الصاعد والخارج لتوه من رحم الدين القديم عادة ما يلجأ إلى الإطاحة بما قبله، وهي ظاهرة يمكن الوقوف عليها حتى من دراسة الأساطير القديمة وتفكيك رموزها. فالإله الشاب مردوخ البابلي شطر إلهة العماء والمياه الأولى الإلهة تيامت إلى شطرين في إشارة إلى تدشين عالم جديد ديناميكي متمرد على تقاليد الحياة القديمة المغلفة بالسكون والرتابة. أما الاحتمال الثاني لتفسير سلوك القرآن المتبدل من حد احتضان محتويات الكتب المقدسة إلى حد رميها بالتحريف والتضليل فربما يفسر في إطار صراع النبي محمد بعد انتقاله إلى المدينة مع الجاليات اليهودية، وهو ما استدعى حتى ضرب اليهود في أصل ديانتهم.
يتبع....
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط