ـ 1 ـ
شخصية عبد الله ابن سبأ ليست أحجية تاريخية تستأهل الحفر للتحقق من حقيقتها من عدمه. الدراسات والأبحاث المعاصرة تكاد تجمع على أننا أمام سراب تاريخي ليس له وجود من أصله إلا في خيال من خلقه ومن صدقه. فمن ذلك ما سجله الدكتور طه حسين "وأول ما نلاحظه أننا لا نجد لابن سبأ ذكراً في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً..." (الفتنة الكبرى: عثمان، ص 132). وضمن السياق نفسه، كتب الدكتور أحمد عباس صالح "وعبد الله بن سبأ شخص خرافي بغير شك، فأين هو من هذه الأحداث جميعاً؟ وأين هو من الصراعات الناشئة في هذا العالم الكبير المتعدد.. وماذا يستطيع شخص مهما تكن قيمته أن يلعب بمفرده بين هذه التيارات المتطاحنة؟ إن الأحداث السريعة العنيفة المتلاحقة لم تكن في حاجة إلى شخص ما حتى ولو كان الشيطان نفسه لأن أصولها بعيدة الغور، وقوة اندفاعها لا قبل لأحد بالسيطرة عليها أو توجيهها، فضلاً عن تشابكها وتعددها بما لا يدع لأي قوة أن تزيدها تعقيداً. وساذج بغير شك التفكير الذي يتجه إلى خلق شخصية خرافية كهذه ليعطيها أي أثر فيما حدث من أحداث. وأكثر سذاجة منه من يظن لهذا الرجل تأثيراً ما على كبار الصحابة، ومنهم أبو ذر الغفاري نفسه الذي لم يقبل مناقشة من أبي هريرة المحدث المعروف، وضربه فشجه قائلاً في ازدراء: (أتعلمنا ديننا يا ابن اليهودية) إنما كل ما حيك من قصص حول عبد الله بن سبأ هو من وضع المتأخرين، فلا دليل على وجوده في المراجع القديمة فضلاً عن سخافة التفكير في احتمال وجوده أصلاً" (اليمين واليسار في الإسلام، ص 95). وربما تتفاجأ أكثر لو علمت أن هناك اتجاهاً يميل إلى أن ابن سبأ ما هو إلا الصحابي عمار بن ياسر الذي كان من أكثر المناوئين لسياسات عثمان المالية والإدارية ومن أشد المخلصين لعلي بن أبي طالب، ومن أصحاب هذا الاعتقاد الدكتور علي سليمان النشار "ومن المحتمل أن تكون شخصية عبد الله بن سبأ شخصية موضوعة أو أنها رمزت إلى شخصية ابن ياسر كما فعل الأمويون بكلمة تراب والترابيين، ومن المحتمل أن يكون عبد الله بن سبأ هو مجرد تغليف لاسم عمار بن ياسر" (تيارات الفكر الإسلامي، ص 203).
ومما يدعم التوجهات المتشككة في وجود هذه الشخصية المثيرة للجدل أن كل الروايات التي تتحدث عن ابن سبأ تجتمع خيوطها في يد راوي واحد اسمه سيف بن عمر التميمي السيئ السمعة لاحترافه الكذب في رواية الأحاديث النبوية كما يتهمه الكثير من علماء الحديث. وبالرغم من شبه الإجماع على نعت سيف هذا بالكذب والبهتان إلا مؤرخين مرموقين أمثال ابن جرير الطبري وابن عساكر انجرفوا كلياً بلا حذر وراء رواياته عند تأريخ أحداث الفتنة الكبرى العاصفة، وكأن الذي انغمس في الكذب على النبي لن يكذب في رواية وقائع تاريخية لاحقة.
ـ 2 ـ
في اعتقادي الشخصي، ابن سبأ "ضرورة تاريخية" أملاها عاملان أساسيان. الأول لغرض الدفاع عن الصحابة، والثاني لغرض الهجوم على الشيعة. كان من المهم خلق شخصية شيطانية مثل ابن سبأ للمحافظة على بياض صفحة الرعيل الأول، وتجنيب أصحاب النبي الكرام ما قد يخدش جمال الصورة الملائكية التي تقطر ورعاً وزهداً وتقياً. إن إعادة كتابة سيناريو الفتنة الكبرى بعد شطب دور ابن سبأ سيزيل الأصباغ عن الوجه الرومانسي الناعم لذاك المجتمع اليثربي، وسيحول الملائكة إلى شياطين، وسيحول الأبرياء إلى مذنبين. لقد أبى العقل المنبهر ببدايات التكوين الإسلامي أن يصدق أن الصحابة الكرام هم كباقي البشر يحبون.. ويكرهون.. ويحقدون.. ويتآمرون.. ويقتتلون. إذاً، كان من الضروري ابتكار شخصية من خارج المحيط الإسلامي، ولتكن سوداء (عقدة عنصرية) ولتكن يهودية (عقدة دينية) تتسرب بمنتهى الخبث كالأفعى لتزرع بذور الشقاق بين أخوة الدين، وتفرز سمومها الفكرية لإفساد الدين القويم وتشويه معالمه السامية.
إننا كمسلمين، وبالذات أهل السنة، نكره ونلعن اليوم الذي ولد ومات فيه ابن سبأ، ولكننا لا نريد كنسه من على صفحات الأمس ولا نريد غسله من الذاكرة. نريده حبلاً ممتداً عبر التاريخ لننشر عليه قميص عثمان وباقي الصحابة. إنه كالشيطان نتذكره ونلعنه لكننا لا نجد أفضل منه لنعلق عليه ذنوبنا. نريده حياً ليكون رأس الحربة في مهاجمتنا لعقيدة الشيعة حتى نحوز على التذكرة اليتيمة لدخول الجنة باعتبارنا الفرقة الناجية. وعلى الرغم من إنهم ـ أي الشيعة ـ يلعنونه ويتبرؤون منه إلا أن صيحاتهم تضيع أدراج الرياح.
وقبل أن يشعل ابن سبأ حرائقه التي مازال لهيبها يضطرم في مواقد صدورنا، سقط الخليفة العادل عمر بن الخطاب بخنجر أبي لؤلؤة المجوسي مضرجاً بدمائه. لماذا قتله؟ قتله لأن الحزن يستوطن قلب المجوسي بعد أن سقطت بلاد فارس تحت سنابك خيول العرب. قتله لأنه يكره هذا الدين الذي أطفأ النار المقدسة في بلاد المجوس. حقد ابن سبأ أطلق الفتنة من عقالها، وحقد أبي لؤلؤة اغتال الفاروق وكفى بذلك أسبابا. من يجرؤ على القول أن أبي لؤلؤة ما كان إلا أداة تنفيذ استثمرتها الطبقة الأرستقراطية القرشية بذكاء للتخلص من عمر الذي منعها من الخروج إلى البلاد المفتوحة في العراق والشام ومصر لمراكمة رؤوس أموالها وتوسيع تجارتها؟
ـ 3 ـ
إن العقل الذي انساق في الماضي وراء صناعة الأشباح بهدف دمغ الحركات الدينية المناوئة للسلطة (ابن سبأ / الشيعة، ميمون القداح /الإسماعيلية) بالانحلال والانحراف عن العقيدة مستثمراً رصيد الكراهية في نفوس المسلمين لليهود، هو ذات العقل اليوم الذي يتغابى ويتعامى عن الاعتراف بشخصيتين إجراميتين تمثلان الأصولية الإسلامية في أبشع صورها، وأقصد كلاً من ابن لادن والزرقاوي. الكثيرون يعتبرونهما شبحين صنعتهما الدعاية الأمريكية من أجل تبرير حربها القذرة. الطريف هنا أنهم يحتكمون إلى العقل لنفي الوجود المادي لسماحة الشيخين المناضلين، إذ كيف يصدقون بوجود من لا يرى بالعين، وكيف يصدقون أن أمريكا بكل جبروتها وتقنياتها عاجزة عن القبض على الشريدين. قد يبدو الأمر منطقياً بعض الشيء لو قال به الغير، ولكن أن يصدر من عقول محشوة بالخرافة وغارقة في الغيب والأوهام، فهذا ما يخرج المسألة من كونها أزمة عقل إلى أزمة ضمير.
لماذا أزمة ضمير؟ لأن الكثير منا يقرأ الأحداث لا كما تجري على أرض الواقع بل كما يتمناها ويتخيلها ويريدها. إنهم لا يرون إلا لونين اثنين: الأبيض والأسود، ولا يرون في الأفق إلا نبوءة منتظرة: الانتصار النهائي على الكفار. إن الذي ينكر تلك الجرائم بحجة أن ابن لادن والقرضاوي من نسج الخيال سرعان ما يتنازل عن "قناعاته العقلانية" عندما يمتد النقاش قليلاً معتبراً أن التفجيرات سواء التي طال أذاها بلاد الغرب أو الشرق ما هي إلا رد فعل مبرر على غطرسة القوة الأمريكية وفضائع الحكومات العربية (!) لا أفهم كيف يجتمع الضدان في رأس واحد، وكيف يكون ابن لادن كذبة قبل دقيقة ثم يكون قتاله رد فعل شرعي فيما بعد!!!
إنكار ما اقترفت يدا ابن لادن والزرقاوي الكريمتان وبقية الجماعات الأسلاموية في الجزائر ومصر وغيرها ما هو إلا قشرة رقيقة يختفي وراءها تواطؤ ضمني مع الممارسات الدموية المبهرة بآيات وأحاديث وصيحات الله أكبر. ألا ترى أنهم يملأون الفضاء نواحاً عندما يسقط قتيلٌ ببندقية أمريكية فيما يتظاهرون بالبلادة عندما يموت العشرات والمئات بيد إرهابي معتوه؟ في يوم تساءل الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد: ماذا يريدون أكثر من اعتراف ابن لادن الشخصي على تبنيه الكامل لتفجيرات الحادي عشر من أيلول؟ أيريدون الرجل أن يطرق باب كل واحد منهم ليشهد أمامه أنه قائد "غزوة مانهاتن" المباركة؟ العقل الذي دفع في عتمة التاريخ بابن سبأ ليحمل أوزار الصحابة الكرام جاء بعد أربعة عشر قرن ليتستر على جرائم من يقتلون باسم الله. هل تجد من فرق بينهما رغم القرون الأربعة عشر؟ أشك في ذلك.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط