تحوي اغلب المجتمعات على ظواهر تتمثل بطباع وتصرفات أفرادها بوجهيها السلبي والايجابي، منها ما يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على عامة الناس ومنها ما يندرج ضمن (الحريّات الشخصية) ولا يعدو تأثيرها شاملا بل حصرا بالشخص ذاته.
لكنننا كمجتمعات شرقية وعربية بالأخص نشتهر بصفة الفضول، فنحنُ كالسيف السليط المتمثل بالحاكم الذي ينشد القصاص ويحاسب الآخر وينتقده على كل شيء لأننا وللأسف لم نسمو بعد لمرحلة قبول الآخر كما هو دون محاولة صبّهُ ضمن القالب العام.
بدايةً فكرت أن السبب قد يكون في تدين المجتمع من ناحية نقده لتلك المظاهر، لكن عند وقوفي أمام البعض منها وبالأخص تلك التي لم أجد تفسيرا لنقدها، أدركتُ أن حوالي 40% من الخطاب الديني في الكنائس والمساجد والخطاب الاجتماعي موجة لمواجهة العرى والإباحية ولا يوجد أياً منها موجة ضد الرشوة، الفساد، البطالة، الغش، التسوّل، السرقة (النشل) وعدم الاهتمام بالنظافة العامة أو المحافظة على الممتلكات والآثار كأبسط الأمثلة، بينما سُخرّت عشرات العظات والندوات والمحاضرات عن الاختلاط وحدوده، العفة، الطهارة واللباس الدين، ولم أسمع كلمة واحدة ضد التزوير، الفساد البيروقراطي أو السلبية السياسية، على الرغم من أن هذه الأمور أكثر تدميرا للمجتمع من حياة وسلوكيات الأفراد الخاصة ومظاهرهم ولباسهم أو حتى آليات وسياسة حياتهم على اختلاف ممارساتها... كذلك فإن أغلب زعيق ميكروفونات رجال الدين وكتب التعليم إنما وجدت لتقييد المجتمع بالنقاب والحجاب وانتقاد الغرب المنحل الموضوع الذي أضحى شغلها الشاغل بل وأكثر حتى من موضوعات مساعدة الفقراء والمحتاجين، الاهتمام بموضوع أطفال الشوارع، القضية الفلسطينية، الإرهاب، الفتنة الطائفية وهدر دماء الأبرياء.. والأزمات حادة التي تهلك المجتمع كالبطالة، الزيادة السكانية، حوادث الطرق ومياه الشرب التي لا يزال نصف المجتمع محروما منها والنصف الآخر يمرض بسببها!... فلماذا لم يحارب المجتمع وعلى رأسه رجال الدين كل هذا؟
ومن هذه المظاهر الأزلية أو المحدّثة والمستوردة التي يتصف بها مجتمعنا العربي التدخين.
"أعجب للإنسان الذي يدفع مالاً ليحرق صدره.." (بيــليه)
طبعاً وكعادة مجتمعنا فنحن ننظر للموضوع ونحكم على هذه الظاهرة من زاويتين مختلفتين، فالمدخن باختصار شخص أناني بحت يؤذي نفسه والذي حوله باستمتاعه بأدخنته التي تسممنا وتقتلنا ببطيء دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه نفسه وصحة الغير وحرمة الأماكن العامة ومن يرتادها، لكننا لم ننتقد يوماً رجلاً مدخناً أو حاكمناه كون التدخين صفه ذكوريّة، طبعا كلمة (ذكر) من المقدسات بمجتمعنا العربي. مع التنويه إنني لا أشجع التدخين وارفضه بجميع الأحوال لكنني أودّ تسليط الضوء على الويل الذي يلحق بالمرأة المدخنّة في مجتمعاتنا حيث ترتفع السيوف وحملات التوعية كأنهم يتنبهون لمضارّ التدخين لأول مرة أو لكأنه مضرٌّ بالمرأة فقط!
وازدادت أيضا بالفترة الأخيرة نوبات عمليات التجميل وصرعة التشبه شكلاً ومظهراً بالمشاهير، فأحال الكثيرين والكثيرات أنفسهم لمسوخ! إنّ الغرض من الطب والجراحة التجميلية هو إصلاح العيوب التي يأمّا تكون خلقية منذ الولادة أو بسبب حادث ما أو مرض، لكن البعض اخطأ أو أفرط بها فصار يغّير وجهه ومظهره الكامل كالقميص! مع هذا لا يمكننا الحكم على هؤلاء مهما كان غرضهم أو حجتهم من الجراحة التجميلية لأنها تندرج ضمن سياق الحريّات الشخصية التي لا يُسمح لأي احد أن يحاسب عليها أو أن ينتقدها فهي لا تعود على الآخر بأي ضرر أو منفعة. مثلها مثل ظاهرة الميل الجنسي لنفس جنسه - لن أدعوه شذوذا رغم صحة الصفة من الناحية اللغوية، لكن لقسوتها ودلالتها الاجتماعية ولكأنها تُطلق على المنبوذين والمسوخ - وهي تعتبر أيضاً حريّة شخصية تعود على الشخص وعاطفته وحالته النفسية أو الجسدية التي قادته وهذا التوجه.. طبعاً تكثر وتتشعب الآراء حول هذا الموضوع الذي سأمر عليه مرور الكرام كونه يحوي الكثير من التفاصيل بدئا بالمسببات حتى أحكامه وعواقبه على الفرد والمجتمع لذا سأتطرق له بمقال آخر.
إنها "الرغبة الجنسية الملحة التي يُعاني منها أفراد المجتمع (ذكورا و إناثاً) والتي تتمظهر تبعاتها في العديد من المظاهر الاجتماعية السيئة، لأننا جميعاً نعلم أن الجنس محرك أساسي في كافة أنشطتنا الإنسانية، ويُصبح حرماننا منه سبباً في تثبيط هممنا الإبداعية، ليُصبح الجنس بعد ذلك هاجساً يُعاني منه أفراد المجتمع، ويتمحور حوله (43%) من الظواهر الاجتماعية والجرائم."1 هي التي تسبب صداعنا الكبير.
من المظاهر الأخرى الأنثوية – مع إني لا أحبذ التصنيف وفق هذا الأساس – والتي يحاسب عليها المجتمع وينتقدها (السفور) أو عدم ارتداء الحجاب و(ملحقاته)، مرة أخرى يندرج هذا الخيار ضمن نطاق المظاهر والحريّات الشخصية التي حتماً لن تُسبب ضرراً ملموساً لصبغة المجتمع العامة فمثلما ما زال هناك من يرتدي (الدشداشة) ويركب (جيـب) هناك من لا يرتدي الحجاب أو العباءة التي لا تعدو كونها لأغلب الدول العربية زيّاً يعبر عن ثقافتهم وحضارتهم ولا يمد بأي صلةٍ للدين، وإن كنا سننظر للموضوع من ناحية دينية ـ على اختلاف الأديان والمذاهب ـ سأكتفي بالقول بأن المجتمع ليس ربـاً لأن المسألة نسبية تتعلق بقناعات الشخص ومدى إيمانه.
الطريف أن القصة بدأت مع هجرات الأسيويين التي أدخلت (ثقافة العورة) لمفاهيمنا وعاداتنا الاجتماعية، بمعنى أن هناك أجزاء من الجسم يجب أن لا تُرى بل تعدى الأمر حتى لصوت المرأة ورائحتها! فأصبحت تغطية أجزاء من جسمها ضرورة، وازدادت مع الزمن مساحة هذه الأجزاء (وصولاً للنقاب) وأضحى الأمر الشماعة التي يعلق عليها المجتمع الذكوري كل حججه لقمع المرأة والحدّ من انطلاقها بالمجتمع كنظيرها الرجل الذي لا تقل عنه قدرةً وإرادة بل وذكاءً أيضاً، الغريب أن يتخطى الموضوع تغطية الجسد ليمتد إلى الألفاظ، فأصبحت هناك موضوعات لا يجوز الحديث فيها و أعضاء لا يليق ذكرها و موضوعات لا يجوز الكتابة فيها.... كل هذا من مفهوم العورة!!
وأضحت السياسة والتطرف الديني والمطالبة بالحقوق أمرها أمر الشرف لا يجوز ذكره على لسان حتى يُقطع، فأصبحت هناك مساحة من الظلام والضباب حول تلك الموضوعات أدت لجهل المجتمع لها وعلى رأسها: (الثالوث العربي المُحرّم: الدين، الجنس، السياسة)، فدخلنا دائرة مغلقة.. جهل يقود للخوف وخوف يقود للمزيد من الجهل وهذا يفسر اتجاه المجتمع لزاوية ضيقة وكأنه يعود كل يومٍ قرناً للوراء.
ظاهرة أخرى يعود سببها للكبت الجنسي عند العرب: "هل الحياة الجنسية في الشرق خالية من الابتذال والانحرافات الجنسية، وللرد على هذا السؤال نستطيع أن نستعين بالإحصاءات التي قامت بها مؤسسات عربية فمنها على سبيل المثال إحصائية قام بها المركز القومي لحقوق المرأة في مصر ذكرت إن (82%) من النساء المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي كما ثبت من هذه الإحصائية إن نسبة (72%) منهن محجبات سواء في الشارع أو في العمل، إن الجميع يعلم جيدا إن هذه النسبة من التحرش الجنسي موجودة في جميع البلاد العربية بدون استثناء وهذا التحرش هو مظهر من مظاهر التعبير الجنسي الذي لا يجد متنفسا طبيعيا له بسبب الكبت الجنسي وعدم إشباعه مما يؤدي إلى تعبيرات مخالفة لما هو متعارف عليه وتظهر بأنماط سلوكية منحرفة"
"أما اغرب أنواع الابتذال الجنسي فهو ما يعرف بالزواج المؤقت والذي اخذ الآن تسميات مختلفة وشرعنه رجال الدين، وهو ليس أكثر من دعارة مقنعة يدفع فيه الرجل مقدار من المال إزاء ما يستمتع به، والضحايا دائما من الفقراء الذين يبيعون بناتهم للأغنياء أو تقوم به النساء المحتاجات للمال، حيث يتم الاتفاق على الوقت والمبلغ الذي يجب أن يدفع مقابل المتعة التي توفرها المرأة للشاري، ومهما يحاول رجال الدين شرعنته فهو لا يمكن أن يكون سوى بغاء ودعارة ومن العار أن نتهم الغرب بالفسق والفجور ونحن نقبع تحت تلال من الفسق والفجور المخفي والغير المعلن وندعي الشرف ونحن ابعد ما نكون عنه بالمفهوم الشرقي للشرف الذي اختصره بالعلاقات الجنسية والأعضاء التناسلية الأنثوية التي يتم الاعتداء عليها بمختلف الوسائل.."2
فلماذا نكون ماديين ديالكتيكيين في الفكر ومثاليين طوباويين في الحياة ؟
لو كان الزواج ربــاً لكفُرت به !
"لا بدّ أن نظام الأسرة والقبيلة والعشيرة هو إحدى أهم تأخر وتخلف النظام العربي الاجتماعي فالدول العربية تحافظ على الإسلام والإسلام يحافظ على القبيلة والعشيرة (العائلة الممتدة)، والقبيلة تحافظ على العادات والتقاليد، والعادات والتقاليد تمنع التنمية الشاملة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان من أن تنتشر في جسم المجتمع العربي وتمنع العادات والتقاليد العربية من تحقيق ذاتية الفرد وشخصيته. فالكتب تغير العقائد والمناخُ يغيُر الطبائعَ والثراء ُيغيرُ العادات والتقاليد وهذه أمور كلها تلاحقنا عليها الأنظمة العربية فتمنع ثراءنا أو وصولنا للشبع لكي لا تتغير عاداتنا وتقاليدنا .إذن يرفض نظام الأسرة والقبيلة قانون التطور كونه انبثق أصلاً عن نظام ديني إلهي ثابت (إستاتيكي)."3
العزوبية.. إن حريّة اختيار الوقت والشخص المناسب للارتباط وتأسيس عائلة تتمتع بالاستقرار وتُسهم ببناء المجتمع وتطوره حق لكل فرد، فالزواج قانون طبيعي وفن اجتماعي وضعه البشر لتكوين أسرة التي هي نواة بناء المجتمع والمحافظة على النوع، أي أننا نتزوج لكي نتكاثر ولا نتزوج لأننا نريد أن نحب أو لأننا نفسر ونترجم الحب على أرض الواقع . لكن العزوبية في مجتمعنا تليق بالرجل حصراً كصفة فخرية دون المرأة التي تُلصق بها عمداً الكثير من التسميات كالتسمية الرجعية والمتخلفة (عانس).
ألم يفكّر المجتمع الذكوري الأناني يوماً بأن للمرأة الحق كنظيرها الرجل بتهيئة نفسها على جميع الأصعدة لتلك الخطوة المصيرية في حياة كلتيهما؟ وأن لها مُطلًق الحق في بناء كينونتها والإعداد لمستقبلها المهني والاجتماعي وحتى المادي؟ إن تلك النظرة القديمة المنقرضة التي تفرض على المرأة الزواج بمجرد إقبالها على المرحلة العشرينية من العمر تحججاً بأن الزوج (سترها وغطاها أو الرجال قوّامون على النساء!) وغيرها من (الكلايش) والعبارات الرنّانة والمحفوظة عن ظهر قلب التي يرددها نساء ورجال مجتمعنا كالببغاوات دون محاولة النظر حولهم لتطور وتغير المجتمع بكل مقاييسه، فالمرأة أمس لم يكن يعدو دورها إلا على تربية الأطفال ورعاية الزوج والأسرة، واقصد بالأمس العصور السحيقة التي تطورت خلالها شخصية المرأة العربية بالأخص لتكون الطبيية والعالمة والفنّانة وسيدة الأعمال وحتى السياسية، فأين لها بهذا الوقت الذي تصل فيه لما تبغي مثلها مثل الرجل الذي يأخذ ما يشاء من وقت لبناء نفسه وتأسيس حياته استعداداً لهذه المرحلة المهمة في حياته؟
من ناحية أخرى، من قال أن الزواج فرض؟ الزواج ليس فرضاً بل مُستحباً لمن يقدر ويشاء.. فلماذا هذه القوالب الكوكنكريتية المُهيأة لصب البنت فيها منذ لحظة ولادتها؟
ولفقهاء الإسلام تعريف آخر مختلف، فالزواج عندهم يعني حصول الرجل للمتعة الجنسية من المرأة مقابل المال الذي يدفعه.. فقد جاء إن "الحنفية عرّف بعضهم النكاح بأنه عقد المتعة قصداً، الشافعية عرّف بعضهم النكاح بأنه قصد يتضمن ملك الوطء بلفظ انكاح أو تزويج، المالكية عرّف بعضهم النكاح بأنه عقد على مجرد التلذذ بآدمية".
وبناء علي هذا الفهم للزواج قامت قوانين الأحوال الشخصية والأسرة في الدول الإسلامية معبرة عن هذا الفهم، رجل يشتري امرأة بغرض المتعة الجنسية، وهذا الفهم للزواج يعتبر ابتذال لأسمي وارفع العلاقات الإنسانية، كذلك يعتبر إمعانا وإذلالا للمرأة وذلك بجعل العلاقة الزوجية علاقة بين طرف عاقل ويتمتع بحقوق وهو الرجل وآخر قاصر عليه واجبات وهو المرأة.4
أما ما بعد دخول المرأة هذه (الشراكة) برضاها أو تحت ضغط المجتمع فهي لا تستطيع الخروج منها بنفس المعاناة التي دخلت بها بل مضاعفتها.
الطلاق أجنحة الرجل وزنزانة المرأة
لأن الطلاق (اجتماعياً ودينيا) من حق الرجل وحده الذي يملك مفاتيحه فهو (القوّام عليها وربّ الأسرة)، وحتى وإن حصلت عليه بطريقة أو بأخرى فإننا سنعود لنقطة البداية: نقد المجتمع للمظاهر الشخصية للفرد والتي تعود له وحده فقط ولا تؤثر على المجتمع بشيء.
"من يتمعن في هذا الفهم للزواج والذي ترتبت عليه هذه القوانين يدرك معاناة النساء في هذه الدول، فهذه القوانين تعتبر أعظم المتاريس التي تواجه قضية تحرير المرأة، فالنساء اليوم نلن تعليم وامتيازات ومشين نفسيا لمرحلة لا تسمح بقبول مثل هذه القوانين التي تكرس لإذلال واضطهاد المرأة، وواضح كذلك إن هذا الفهم وهذه القوانين لا تعبر عن مجتمعات اليوم بل تعبر عن مجتمع القرن السابع الميلادي، والذي لا يزال يتشبث به المسلمون ويعيشون بأفكار وقوانين كانت قبل أربعة عشر قرن."5
1- جلال حبش،"سؤال عن الجنس"، موقع مساواة المرأة.
2- سامية نوري كربيت، "الحياة الجنسية في الغرب هل هي أكثر ابتذالا وانحرافا منها في الشرق"، موقع مساواة المرأة.
3- جهاد علاونه، "نظام العائلة المتخلف"، موقع مساواة المرأة.
4- اقبال قاسم حسين، "الزواج في الدول الإسلامية"، موقع مساواة المرأة.
5- اقبال قاسم حسين، "الزواج في الدول الإسلامية"، موقع مساواة المرأة