على هامش محكمة الطّاغية
مالك مسلماني
/
Aug 22, 2004
لقد حجب الجدل بصدد محاكمة طاغية العراق المخلوع صدام حسين، الجوهر الحقيقي لقضية الاستبداد في العالم العربي. فلقد تم التركيز على صدام حسين كشخص، وفي حالات أخرى تم التعاطي مع الاستبداد على أنه نتيجة لطبيعة الطغمة الفاشية التي كانت تجثم على صدور العراقيين. وهذا الجدل الذي أثارته وسائل الأعلام بطريقة تعاطيها الهادفة للإثارة، وبالأخص الوسائل المرئية منها ـ أبعد النقاش عن السؤال المحوري في هذه القضية: ألا وهو كيف وجد هذا الطغيان؟ ولماذا استمر راسخاً إلى أن تم الإطاحة به من قِبل قوة خارجية؟
تدل المؤشرات الأولية التي برزت في العراق بعد الإطاحة بحكم الطغمة الفاشية فيه على أن عراق الغد لن يكون مختلفاً عن عهد صدام حسين؛ ذلك إن الضربة التي دمرت مؤسسة حكم النظام القمعي، لم تسبب أزمة فكرية للمجتمع العربي ـ في العراق وفي العالم العربي ـ بعد، ولم تدفع بشرائحه المختلفة للقيام بعملية نقد ذاتي تسمح بفهم المصير الذي آل إليه العالم العربي. وهذا يشمل نخبه أيضاً باستثناء مثقفين عرب يتطلعون لعهد جديد ديمقراطي للعالم العربي.
إن النقاش الدائر حالياً يتركز على ظاهرة صدام حسين كمستبد فرد، أو بوصفه زعيم طغمة متسلطة، بدون النظر إلى آليات إنتاج ظاهرة صدام حسين في البيئة العراقية والعربية. وهذا الجدل يبعد سهام النقد الضرورية عن الوضعية الاجتماعية ـ الثقافية ـ السياسية في العالم العربي. إنَّ أي نقاش لا يتناول آلية تشكّل ظاهرة الحكم الاستبدادي، لهو نقاش يحجب الخلل البنيوي العميق في العالم العربي، ولا يرى في البنية الاجتماعية مولداً للاستبداد، هذا إن لم يشرعنها بدعوى الخصوصية.
لكي نفهم ظاهرة صدام ـ والصداميين العرب ـ يتأتى علينا أن نعالج مسألة الاستبداد من خلال مقاربات متعددة؛ الأولى: دراسة بنية السلطة، والطريقة التي كانت تحكم بها العراق؛ والثانية: دراسة المجتمع العربي، وتحليل البنية المجتمعية بأنساقها الثقافية، والنفسية، والاقتصادية المختلفة لفهم القابلية الداخلية التي تسمح لهذا المجتمع بقبول الاستبداد. والثالثة: طبيعة الارتباط بين بنية السلطة وبنية المجتمع العربي الذي تأسست فيه ـ وعليه ـ ظاهرة الاستبداد في العالم العربي. والتأثيرات المتبادلة التي يقوم بها كل من المجتمع والسلطة للآخر، بحيث لا نجد تعايشاً بينهما، بل تشارطاً اجتماعياً، وتعلقاً سيكولوجياً.
وإذا كان صدام حسين ينتمي لمجموع حكام العالم العربي الطغاة. فهو يمتاز عنهم بأنه الممثل الأكثر دموية للحكم الطغياني. ويعود ذلك إلى أن المؤسسة العراقية التي كان يتربع على عرشها كانت تعكس أقبح تجليات الطغيان سياسياً. وبالتالي إذا كان صدام ينتمي إلى حفنة الطغاة الأكثر دموية وإرهاباً بالتاريخ العالمي، فهو ينتمي بالوقت عينه إلى المجتمع الذي خلق ظاهرته، وآمن من ثمّ بها، وصدّق سيل الأكاذيب التي كانت واجهة النظام الإعلامية، والتي تكشفت عن زيفها بالسقوط السريع والمخزي للنظام المتعفن ـ ولم نقل سقوط بغداد، لأن بغداد كانت قد سقطت من قبل، يوم تركت الطغاة في قصورهم ينعمون.
إن طاغية العراق المخلوع الممثل الأكثر وضوحاً للاستبداد السياسي في العالم العربي، والمصير الذي انتهى إليه لا يقوّض بنيان الاستبداد في العراق وفي العالم العربي. فالاستبداد في العالم العربي هو استبداد قائم اجتماعياً على البنية الأبوية؛ وثقافياً على قيم هذه البنية والمتشبعة بالقيم البدوية. وهذان المرتكزان هما اللذان ينتجان ظاهرة صدام حسين ويعيدان إنتاجها بأشكالها المختلفة في المجتمع العربي. سيعيدانها ما دام المجتمع محكوماً بهما.
المرتكز الأول: النظام الأبوي
إن الظاهرة التي أشير إليها مرراً هي أن التكوينات الاجتماعية في العالم العربي تخضع للفرد الأوحد ففي: الأسرة، والأسرة الممتدة، ومختلف المؤسسات الاجتماعية (الأحزاب، النقابات، هيئات السلطة، والوحدات الاقتصادية) نجد أن ثمة فرداً: أباً، مديراً، قائداً، ... هو المرجعية الوحيدة والحَكَم النهائي الذي يجب أن ترد إليه جميع الأمور، والتالي الخضوع له. ويتصف هذا الفرد الأوحد بالطغيان على المجموع التابع له. ولهذا فنحن نرى في كل حلقة اجتماعية واقتصادية وسياسية صدام حسين.
إن البناء السيكولوجي للإنسان العربي تقولب عبر الزمن مع هذه الهرمية الأبوية وعلى الخضوع للممثل الأب. وهذه السيكولوجية بحضورها المحسوس في الوعي الثقافي للفرد العربي كونت سلوكيات اجتماعية واقتصادية خاصة. وجعلت الإنسان العربي يبحث دائماً عن الفرد الذي يرى فيه مثال الأب من أجل الخضوع له. وقد رُسمت طرائق حياته بهذه الوضعية، وأصبحت محددة تماماً بالقيم الناشئة عن هذه العلاقة. ومن الناحية العملية فإن السلوكيات الفردية وآليات عمل المؤسسات الاجتماعية في العالم العربي صارت خاضعة كلياً لهذا المنظور الثقافي والنفسي. وللقوانين الداخلية التي أسستها هذه العلاقة الأبوية. ومن هنا صارت البنية الأبوية ضرورة اجتماعية واقتصادية، ولهذا نجد أن المؤسسات الاجتماعية تتعطل جراء أي غياب للمتسلط. فلم يعد الفرد الأوحد ضرورة سيكولوجية بل واقتصادية.
وإذا كان إريش فروم في كتابه "الخوف من الحرية" قد أقرّ بأن النازية هي مشكلة اقتصادية وسياسية، بيد أنَّ قوتها وقبضتها الجبارة على الشعب يجب أن تُفهم على أسس سيكولوجية؛ فإننا نرى أن المسألة تختلف في العالم العربي، فإشكالية الاستبداد في العالم العربي ثقافية وسيكولوجية، قامت بتأسيس المشكلة الاقتصادية والسياسية التي نرزح ونعيش وطأتها. فالأساس الأول في الشرق هو الإله، وممثليه الأرضيين من آباء وقادة وزعماء، أي: الطغاة.
وإذ كنا نقول بذلك فنحن لا نتجاهل الطرح الماركسي القائل بأن حياة المجتمع المادية تحدد حياته الروحية. لكننا نجد أن الأنساق الثقافية في العالم العربي تضع الفكر المادي ـ ماركسياً وغير ماركسي ـ بنوع من الارتباك، ولهذا نشأ جدل في الماركسية بشأن أطروحة مفترضة لماركس تتعلق بنمط الإنتاج الآسيوي. ومن هنا فنحن لا ننفي أولوية العامل الاقتصادي في العالم العربي أو نقبل به، لأنها إشكالية واسعة، وتحتاج هذه المسألة لبحث ـ يلوح أنه فوق كفايات كاتب هذه الأسطر ـ. لكننا نقبل بوجود بناء أبوي له دعائم ثقافية ونفسية. والدعامة الأكثر تمييزاً لهذا البناء الثقافي ـ النفسي هو اعتبار الأب تجسيداً للألوهية. وشخصه مثال الواحد الأحد. وبالتالي فهو يحوز على الجبروت المطلق، في حين أن الأتباع ـ الأبناء يتسمون بالخضوع والضعف الكاملين. ولا شك أن لهذه الرؤية الأبوية دعائم في الأديان التوحيدية. وقد منح الإسلام البنية الأبوية في العالم العربي والإسلامي رسوخاً إضافياً كونه الدين المهيمن، وكونه دين مفرط في أبويته، يكبح بقوة كبيرة أي انفكاك من أسر الأبوية الطاغية. وفي ظل هذه الشروط الاجتماعية والثقافية بوسعنا أن نكتشف سر إعجاب قطاعات واسعة من الشعوب العربية بالطاغية المخلوع. فهذا الطاغية حالة نموذجية للسلطة الأبوية المتجبرة، تلبي الحاجة النفسية للعربي، وتوفر له مادة عشق من خلالها يعبر عن خضوعه المطلق للأب الأكبر، فيقوم بتوطيد روح العبودية في عالمه النفسي، وهذا يسمح بتقوية البنى الاجتماعية الاستبدادية.
إن السلطة العراقية كانت تؤكد على طابعها الأبوي بشكل مفرط في فظاظته، حيث كان سعيها إلى مدّ مساحة سلطة زعيمها إلى خارج العراق هو ما يميزها عن مثيلاتها في الدول العربية الأخرى. لقد كانت المشاريع المسماة قومية، وحروب النظام ترجع في المقام الأول إلى هاجس يسكن عقل القيادة العراقية، ألا وهو إضفاء المزيد والمزيد من صفات القوة والألوهية على قائدها "المعظم". كانت السلطة العراقية تبحث عن وسائل تضخيم الأب، ومنحه المزيد من صفات الجبروت والقداسة. فإذا كانت الأنظمة العربية في الدول العربية تسعى لهذا الهدف أيضاً؛ فإنها اكتفت ببسط سلطتها الأبوية ـ القمعية على مجالها الخاص فحسب. فوفق حسابات الربح والخسارة كانت تنزع بسياستها الأبوية نحو الداخل فقط. وهي في هذا لم تكن تصدر عن سعة أفق استراتيجية، أو خوفاً من أن تتضرر مصالح الشعوب المحكومة (الرعية)؛ بل كانت ناتجة عن الخوف من أن يُلحق أي أذى بالإله المتربع على عرشها، وبالتالي كانت "حكمة" الحفاظ على الأب.
ما ميز الحالة العراقية هو أن طاغيتها ولحسابات الربح والخسارة ظن وجود إمكانية مد سلطته إلى مساحات أبعد من حدود العراق. وقد أدت هذه الحسابات في المآل النهائي إلى كارثة على العراقيين، وهي إذ نمت عن سوء حسابات الطغمة الفاشية في العراق، فإنها أكدت بوضوح لا غبار عليه مدى الحماقة التي بلغته هذه القيادة نتيجةً لتضخم سرطاني في صنمية طاغيتها ـ الأب. إضافةً طبعاً للعوامل الداخلية والاقتصادية في حروب هذا النظام الفاشي.
سلسلة الأعمال الجنونية هذه جعلت صدام حسين وفق نموذج الأب الشرقي أباً للمجموع، وبطلاً نمطياً للعربي، كونه يمثل في عنفه القوة الغاشمة والسلطة العليا، والتي تجسد في حضورها الإله. وكان من الطبيعي أن يتحول صدام حسين، إلى بطلٍ عربي كونه الحالة البشرية لهذا الإله (= الأب).
إن هذه الصورة المتضخمة للأب، والديماغوجية القومية تارةً والإسلامية طوراً آخر، وفرت الوضعية التي اصطبغ فيها صدام حسين بآيات البطولة والإجلال شعبياً. وربما صار صدام حسين فعلاً زعيماً عربياً شعبياً (معبوداً) مثل نظيره المصري "عبد الناصر". لكن ذلك هو التعبير الأوضح عن حالة الهزيمة العميقة التي كانت ـ ومازالت ـ تعصف بالإنسان العربي، هذا الإنسان المتعلق بإله ـ أب هو في الحقيقة مجرد أب ـ صنم، وخيال رسمته أهواء العربي. هذا الإنسان الذي عاش لحظات هلع لما أراد "عبد الناصر" مغادرة سدة الحكم. ولما لم يكن العربي ليقبل أن يخسر أباه، ومهما كانت حجم الأضرار التي ألحقها به هذا الأب؛ فإنه خرج للشارع يطالب مذعوراً برجوع "راعيه". خرج يعبر عن خوفه ورعبه من فقدان أبٍ. رفض فرصة أن يتخلص من كونه "رعية"، فطالب ببقاء "الراعي ـ الأب" وبقي هو "الرعية ـ الطفل".
هزيمة بحجم هزيمة 1967، لم تهز صورة "الأب" ولم توقظ "الأبناء" من سباتهم. وبعد عقود رفض الوعي الشعبي العربي أن يدرك أن إلهه الآخر في العراق هو إله ـ وهم، بطولة ـ كذبة، وأن ما اعتبره أباً هو مجرد شخص كان يخاف في لاوعيه القوة. ولهذا فعندما انطلقت نيران المدافع وجدنا كم كان النظام ضعيفاً، ورأينا أشد وأفظع حالات الهلع مرتسمة على وجوه الجلادين الفاشيين. والتفسير نجده في مقاربة كتاب فروم السالف الذكر للشخصية التسلطية، فحسب تعريفه؛ فإن أهم صفة فيها: "هي موقفها من القوة، فبالنسبة [للشخصية التسلطية] يوجد جنسان: الأقوياء والضعفاء. إن حبه وإعجابه واستعداده للخضوع تُستثار آلياً بالقوة، سواءً كانت قوة شخص أم مؤسسة. القوة تسحره لا لأية قيم تتصف بها القوة النوعيّة بل لمجرد أنها قوة".
إن هذا التعريف يقدم تفسيراً لحالة الذعر التي أصابت قادة النظام المخلوع، والتي دفعتهم للقفز في قفص الأسر الأمريكي. فليس عجباً أن يوجد طاغيتهم الأكبر في نفق الجرذان؛ بل العجب كل العجب في الحالة العربية المزرية التي لم تقوّضها انهيار سلطة الديكتاتور، ولم تدفع بالمجتمعات العربية لوقفة نقدية لا من أجل إعادة النظر تجاه الحكم الشمولي، بل تجاه النظام الاجتماعي والثقافي الشمولي وضرورة تفكيكه وتصفيته.
إن العقل العربي الراهن يرفض التجاوب مع الأحداث الجارية في العالم، ولنا أن ندّعي بأنه لو كان يمكن القيام بتجربة في الحقل الاجتماعي، فتمّ إطلاق الطاغية المخلوع، فإنَّ فرصة عودته للحكم كبيرة حتى بعد أن انهارت أدوات النظام القمعية في العراق، وسنراهن في هذه الحالة على أن فرصة انتخاب صدام رئيساً في أكثر من بلد عربي كبيرة أيضاً. وهذا لا يدل على قوة الحضور لهذا الإله ـ الوهم، القوة ـ السراب، بل على حجم الوهم الذي يغيب فيه العربي، العاشق لصناعة أصنامه، وحتى لو كانت مادتها أتربة من أنفاق الجرذان.
المرتكز الثاني: قيم البداوة
المرتكز الثاني للاستبداد العربي هو خصوصية تاريخية موروثة, فكوننا أشد الشعوب عيشاً بالماضي، وتمثلاً لقيمه، فنحن نختلف عن بقية الأمم بأن زمننا الخاص ليس الزمن الكوني. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإننا نحمل مورثات ثقافية، تعود بنا إلى قيم قديمة خاصة بالمجتمع الصّحراوي. إذ ثمة رواسب بدوية في السيكولوجية العربية. ودفعاً لكل سوء تفسير فإننا نلفت عناية القارئ إلى إننا نرفض كل رؤية عنصرية ترى في الأعراق مفتاح تفسيرٍ للتاريخ والمجتمع؛ وأن المؤسسات الاجتماعية والثقافية تتعين بالأعراق كما أرسى دعائم هذه الرؤية مؤسس الفكر العنصري في الغرب غوبينو في كتابه "بحث بصدد عدم مساواة الأعراق البشرية". إننا إذ نقر بوجود هذه الرواسب النفسية، فإننا نثق بإمكانية تفكيك هذه الرواسب، وتخليص الإنسان العربي؛ وهذه الثقة نقيض كل حتمية عرقية.
ومن أجل تحديد هذه الرواسب، نورد اقتباساً من مقدمة ابن خلدون، (الباب الثاني، الفصل 26):
في أَن العرب إِذا تغلبوا على أوطان أَسرع إِليها الخراب.
فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وأنَّ رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدٌّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مالٍ أو متاعٍ أو ماعونِ اننهبوه. فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسةُ في حفظ أموالِ الناس وخَرِبَ العمران.
وأَيضاً فلأنهم يتلفونَ على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمةً ولا قسطاً من الأجرِ والثمن. ...
وأيضاً فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعضٍ؛ إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو غرامةً. فإذا توصلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم، وقهر بعضهم عن أغراضِ المفاسد. ربما فرضوا العقوبات في الأموال حرصاً على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم؛ وذلك ليس بمغنٍ في دفع المفاسدِ وزجر المتعرضِ لها؛ بل يكون ذلك زائداً فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرعايا في ملكتهمْ كأنها فوضى دون حكمٍ، والفوضى مهلكةٌ للبشرِ، مفسَدةٌ للعمرانِ..
يتعاطى ابن خلدون في نصه مع وحدات اجتماعية لا تنتظم في إطار دولة، وبالتالي ثمة اختلاف عن المنظومة الاجتماعية المعاصرة. لكن لدى قراءتنا هذا النص، تحضرنا فوراً صور المؤسسات القمعية في العالم العربي. وتتراءى أمام أعيننا السلوكيات الموصوفة أعلاه، فنجدها لا في مؤسسات القمع في البلدان العربية فحسب، بل من جانب مختلف المؤسسات الاجتماعية والسياسية. وحتى منظمات العمل "الفدائي" لم تكن بعيداً عن هذه الممارسات. وبالتالي لمّا تأسست أول سلطة للحكم الذاتي في الأراضي الفلسطينية وجدنا أن الفساد المبني على هذه القواعد البدوية والسعي إلى تحصيل الغنائم قد ميزت هذه.
لما قامت الدول العربية بعد الاستقلال ببناء مؤسساتها القمعية، أقامتها على أساس هذه النزعة؛ فأدمجت هذه السلوكيات والقيم البدوية في إطار وظيفي، لا يقتصر على تأمين أمن النظام، بل يسعى لصيانة هذه القيم وإعادة ما اندثر منها. وبظل الأنظمة المعاصرة وجدنا أن النزعة البدوية بلغت أوجها. وهذا ما ميز الدولة العربية المعاصرة بأنها دولة قبائل على صعيد الحكم، ودولة بدواة على صعيد القيم والممارسات، وقد سمح هذا لقطاع عريض من تكوينات السلطة بانتهاب أموال الشعب، ناهيك عن تحقيق إشباع سادي تجاه المجتمع. وإذ روّع ذلك المجتمع فإنه خلق فيه تقديراً كبيراً لهذه المؤسسات المعبرة عن القوة البدوية. فعوضاً عن تولّد عنف المؤسسات القمعية رفضاً واستنكاراً ومقاومةً، أثارت هذه المؤسسات بالمجتمعات العربية الإعجاب الممزوج بالخوف.
إن هذا العنف البدوي الذي تشبعت به المؤسسات السلطوية الفاشية في العالم العربي، وطد ركائز السلطة المستبدة. ونحن نرى في هذا المرتكز جزءً من قوة صدام الذي شكل مؤسساته القمعية وفق نظام الغارات والغنائم والحملات والاستباحة للمجتمع. فوفر للاستبداد مؤسسة قمعية متماسكة تجد في الانتهاب البدوي قوة ربط فيما بينها، وسبب ولاء للمستبد. وبالتالي كلما كان المجتمع يزداد فقراً، وتفككاً، وتتلاشى فيه كل ثقافة، كلما كان النظام الاستبدادي يزداد نهباً، وبداوةً، مما أمن أشد درجات التلاحم للسلطة الطغيانية على حساب المجتمع الذي زاد تشظياً.
خاتمة
إن الشعوب العربية وإن كانت ترزح تحت نير هذه القيم البدوية التي تمارسها السلطة، إلاّ أنها تجد في قيمها أمثلة عليا، ولهذا فهي في سلوكها اليومي تعيد هذه الممارسة، لا وفق قوة المثال التي تشكله السلطة، أو حسب تحليل كتاب آنا فرويد "الأنا وأوليات الدفاع"، فحسب، بل وفق القيم الموروثة في اللاوعي الجمعي. وما دامت البنية العربية بهذه الصيغة فإن التاريخ العربي سيحمل معه طغاة أمثال صدام حسين. فالملايين التي تعشق الطاغية المجنون، هم ملايين احتمالات صدام. وما لم يتم تصفية البنية الفكرية للاستبداد، وتجاوز القيم البدوية، والبنى الاجتماعية المنتجة للعنف والقتل والتدمير؛ فإنَّ التاريخ العربي سيبقى محكوماً بالاستبداد والعنف. وقد يتجليان تارة تحت قناع القومية العربية، وأخرى من خلال "الجهاد الإسلامي" وغيرها من المسميات والأيديولوجيات الفاشية. إن ابن لادن السعودي والزرقاوي الأردني وصدام العراقي، وغيرهم من الأسماء والجنسيات هم بالتحليل النهائي صور مختلفة لبنية واحدة. إنهم الاستبداد، والبداوة، وروح الغزو المشخصنة بصور متفاوتة .
إن الذين يدافعون اليوم عن صدام، يدافعون عن أنفسهم قبل كل شيء، لأنهم جزء من هذه المنظومة الاجتماعية، ولأنهم يريدون الدفاع عن بدواتهم وعنفهم وأبويتهم، وعن كل نظام شمولي، وكل بنية اجتماعية شمولية، وبالتالي عن روحهم الشمولية. هؤلاء يريدون لهذا المجتمع أن ينتج صيغ مختلفة للاستبداد، فمرة صدامية وتارة زرقاوية وطوراً لادنيّة.
إن الذين يدافعون اليوم عن صدام يلحقون بأنفسهم عار الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه إنسانياً وأخلاقياً وتاريخياً: الدفاع عن الاستبداد والعنف، والعقلية البدوية.
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط