ميرزم عيد / Oct 08, 2005

يقول فراس السواح: [الدِّين محرِّر، لكنه من أكبر المقيِّدات إذا تحوَّل إلى إيديولوجيا ناجزة وضاغطة على الفرد.. الأمانةُ التي قَبِلَها الإنسانْ ورفضتْها الجبالُ هي الحرية].

التّدين حرية شخصية، والروحانيات أمور تتعلق بين الإنسان وربه ولا علاقة للآخرين بها.

عندما يحاول الآخرون، ممن نصّبوا أنفسهم أوصياء على الدين وأصوله، أن يفرضوا تعاليمهم ورؤاهم الدينية عليك بحجة أنها سماوية مقدسة؛ وأن رفضها أو المجادلة في صحتها سيجرُّ عليك عقاباً من الله وممثليه على الأرض، يتحول الدين على أيدي هؤلاء إلى أكبر مقيّد للحرية.

**********

النصّ الديني بطبيعته نصّ إشكالي. الإشكالية فيه تتأتى من كونه كلام خالق (قوة ما ورائية) موحى به إلى نبي (وسيط مادي). الوحي نفسه إشكالي، لا يستطيع إنسان أن يحدد ماهيته: هل جاء على شكل كلمات محددة ثم قام النبي (الوسيط) بنسخها حرفياً، أم على شكل معاني فضفاضة قابلة للتصرف من قبل الوسيط ؟!. هذه الإشكالية في الدين ستغدو مصدر قوته وضعفه في آنٍ واحد.

العقل البشري، حتى الآن، محدود في قدراته. لا يمكن لعقل محدود أن يستوعب الـ ما ورائيات؛ فهو لذلك يسلِّم بها تسليماً (قوة النصّ الديني). من ناحية أخرى كل النصوص الدينية (الحديثة العهد على الأقل) جاءت محمّلة (قسراً عنها) بأحداث تاريخية وقصص نبوية وأحكام شرعية لا يمكن للعقل البشري المسلّح بالعلم الحديث إلا أن يُخضعها للشكّ والمحاكمة والنقد، مع ما يؤدي ذلك إلى احتمال رفضها جملةً وتفصيلا، أو أجزاء منها على الأقل (ضعف النصّ الديني).

هناك حقيقة ثابتة يدركها الجميع (متدينون كانوا أم علمانيي )؛ وهي استحالة إلغاء الشعور الديني عند الإنسان. هذا الشعور الروحي ترسّخ في النفس البشرية منذ آلاف السنين، وتعزّز بالتوارث والتربية، وغدا مستحيلا انفكاكها عنه. الشعور أو الإيمان بقدرة ما ورائية (بغض النظر عن مسمياتها وصفاتها في النص الإلهي) يولِّد طمأنينة وسلام داخلي في نفس الإنسان. والإنسان من دون هذا الشعور يتحول إلى كائن تائه في صحراء مترامية الأطراف. الخطأ التاريخي الجسيم الذي اقترفته بعض الحركات السياسية العلمانية، فأصابها في مقتل، كان محاولتها قتل هذا الشعور. الشعور الديني عند المسيحيين الروس (على سبيل المثال) لم تستطع إلغاءه 70سنة من نظام " الاشتراكية العلمية ". والحزب الشيوعي السوري العريق لم تنجح عقيدته العلمانية بمنع بعض مناضليه "المسلمين" من القتال في صفوف "الإخوان المسلمين" ضد خطر إلغاء الشعور الديني لديهم!.

**********

العلمانيون ليسوا ضد الدّين؛ ولكنهم ضد أدلجة وتسييس الدين.

العلمانيون لا دينيين (بمعنى تمردهم على طقوس وشكلانية الأديان)؛ ولكنهم ليسوا بملحدين.

الإيمان لدى العلمانيين يحررهم ولا يقيدهم لأنه إيمان عقلاني.

نقد النص الديني من قبل العلمانيين يجب ألا يُفهم على أنه حرب على "المقدسات"، بل هو محاولة صادقة لتعزيز الروحانيات في نفوس المؤمنين وترقيتها، بعد تطهيره من دنس مدّعي النبوة والقداسة.

 

انطلاقا من هذه الرؤية نعتقد أن نقد المسيحية مثلاً (كنصوص دينية محددة) هو للدفاع عنها كديانة محررة للعقل ومولدة للطمأنينة الداخلية، وليس لتقويضها!!. أولم يقل المسيح: (تعرفون الحق والحق يحرركم)؟!.

معرفتنا بالحق تجعلنا نعتقد جازمين بأن كثيراً من نصوص ما سمي بالعهد القديم، والذي تمّ لصقه بالعهد الجديد في كتابٍ مقدّسٍ واحد، شوّهت المضمون الحضاري والتحرري للمسيحية!.

لا نريد المجادلة في مصداقية النص الديني المسيحي من الناحية العلمية والتاريخية. هذه المصداقية دافع عنها الكثيرون وانتقدها بالمقابل كثيرون أيضا. ما يهمنا في هذا الموضوع هو تسليط الضوء على الأثر النفسي الذي يتركه النص الديني المقدس في وجدان وروح الإنسان، لأنه سيلعب دور المولِّد الرئيسي لشعور الطمأنينة والسلام الداخلي. إن تحميل النص الديني أفكاراً ومفاهيم وشرائع مشوهة، والادعاء بأنها إلوهية المصدر، سيترك في النفس خدوشا وتصدعات خطيرة.

 

لا يمكن لنفوسنا، ونحن نقرأ أقوالاً للسيد المسيح، إلا أن تنتشي وتحلق في فضاءات رحبة من المحبة والطمأنينة والسلام. وهنا نسجِّل بعضاً منها:

ـ سأله تلاميذه قائلين: هل تريدنا أن نصوم؟ كيف نصلِّي؟ هل ينبغى أن نقدم صدقات؟ وما الطعام الذي يجب أن يحل لنا؟ فقال يسوع: لا تكذبوا، ولا تفعلوا ما تكرهون، لأن كل الأمور مكشوفة أمام السماء. ففي النهاية لن يوجد شيء خفي إلا وينكشف ولا مستور إلا ويُعلَن.

ـ إنسان مثل صياد حكيم من ألقى شبكته في البحر وسحبها من البحر ممتلئة بأسماك صغيرة. فوجد بينها سمكة كبيرة رائعة. فطرح كل الأسماك الصغيرة في البحر، وأبقى بلا تردد على السمكة الكبيرة. مَنْ له أُذنان هنا فخير له أن ينصت.

ـ ما يدخل فمكم لا ينجِّسكم، بل إن ما يخرج من فمكم هو الذي ينجِّسكم.

ـ لتحب صديقك كنفسك، وتحميه كما تحمي حدقة عينك.

ـ أنت ترى القشة التي في عين أخيك, بينما الخشبة التي في عينك لا تراها. فعندما تُخرِج الخشبة من عينك، حينئذ سترى بوضوح كيف تُخرِج القشة من عين أخيك.

ـ ليس هناك شخص يشرب خمراً عتيقة وبعدها يريد أن يشرب خمراً جديدة. الخمر الجديدة لا تُسكَب في كؤوس قديمة خشية أن تُشرخَ، والخمر العتيقة لا تُسكَب في كأس جديد خشية أن تفسد. قماشة قديمة لا تُرقع إلى ثوب جديد، وإلا ستتمزق.

ـ إذا أظهرت ما بداخلك، فإن ما عندك سوف يخلِّصك. وإذا لم يكن عندك ما بداخلك، فان ما لا تملكه بداخلك سيقتلك.

ـ إن قال أحدكم إني أحب الله وأبغض أخاه، فهو كاذب لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره.

ـ فإذا قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك عليك شيئا، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك.

ـ سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم.

ـ لا تدينوا كي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي تكيلون به يكال لكم.

ـ ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسعٌ الباب ورحبٌ الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. ما أضيق الباب وأكرب الطرق الذي يؤدي الى الحياة؛ وقليل هم الذين يجدونه.

ـ قال له تلاميذه: إن أربعة وعشرين نبياً تكلموا في إسرائيل، وجميعهم تكلَّموا عنك. فقال لهم: إنكم في غفلة عن الحيَّ الموجود معكم، وتتحدثون عن الموتى.

 

في المقابل، إن من يقرأ بعض النصوص الدينية الواردة في العهد القديم لا بد وأن يصاب باضطراب في نفسه وتشويش في روحه. إن الأثر النفسي الذي تتركه هذه النصوص (سواء كانت سماوية أم أرضية) سيء جداً؛ ولا يمكن له إلا أن يترك جروحاً غائرة في نفس وعقل المتلقي (متديناً كان أم علمانياً). وهنا نسجل بعض الأمثلة:

ـ كلّم الرب موسى وهارون ".. فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة، وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم، وأصنع أحكاماً بكل آلهة المصريين. أنا الرب، ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم، وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر".

ـ وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك، فلا تستبق منهم نسمة ما.

ـ قال الرب: ".. فتضربون كل مدينة محصّنة، وكل مدينة مختارة، وتقطعون كل شجرة طيبة، وتطمّون جميع عيون الماء، وتفسدون كل حقلة جيدة بالحجارة".

ـ اذهب خذ لنفسك امرأة زنا وأولاد زنا، لأن الأرض قد زنت زنىً تاركة الرب.

ـ وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وصراخي دخل أذنيه، فارتجت الأرض وارتعدت، أسس السماوات ارتعدت وارتجت، لأنه غضب، صعد دخان من أنفه، ونار من فمه أكلت، جمر اشتعلت منه، طأطأ السماوات ونزل، وضباب تحت رجليه، ركب على كروب، وطار، ورئي على أجنحة الريح ...

ـ وبنى نوح مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا..  

ـ تمتلكون المدينة ويدفعها الرب إلهكم بيدكم. ويكون عند أخذكم المدينة أنكم تضرمون المدينة بالنار. كقول الرب تفعلون.

ـ لا يدخل مخصيّ بالرضّ أو مجبوب في جماعة الرب.

ـ لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب.

ـ ما أجمل رجليكِ بالنعلين يا بنت الكريم. دوائر فخذيك مثل الحلي، صنعة يدي صناع. سرتك كاس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن. ثدياك كخشفتين توأمي ظبية. عنقك كبرج من عاج.عيناك كالبرك.. ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذّات. قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد... وتكون ثدياك كعناقيد الكرم ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين، أنا لحبيبي، وإليّ اشتياقه. تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى. 

**********

يقول لاو تسو: [من غير أن تنظر من النافذة تستطيع أن ترى طريق السماء].

عندما يدّعي رجل الدين بأن طريقك إلى السماء يمر حصراً عبر نافذةٍ فَتحَها له الله ليعبر منها "الجهلاء" إلى وجه الحق؛ وأن أي نافذةٍ تفتحها في عقلك "القاصر" تؤدي إلى الضلال، يصير الوصول إلى السماء أمراً مشكوكاً فيه!.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط