إبراهيم عرفات / Jun 29, 2006

لست ممن يتشيعون لفئة مسيحية ضد فئة أخرى لأني أرى في هذا تقييداً لحريتي، ولم أقصد أن أتعرف بالأب متى المسكين كمعلم لي من باب الخروج عما يألفه عوام الناس. ذهبت ذات مرة لزيارة المرحوم حلمي صديقي، وبعد أن أكلنا وجبة شهية وأودعني سلامة الله ترك معي مجموعة من الكتب الصغيرة وشريطاً كان هو بداية تعرفي بهذا الصوت المميز والذي لم أعرفه من قبل. أخذت الشريط واستمعت إليه وكثيرا ما ترد إليّ الشرائط من هنا وهناك ممن يرغبون في دعمي في إيماني المسيحي والتي كانت انتقالاً كبيراً من خارج المسيحية إلى المسيحية برحابها المتسعة ومسيحها الرأس. عندما تسمع عظة للأب متى المسكين (وهو لا يحب أن يرى نفسه واعظاً بل إنساناً له عِشرة بالمسيح يأخذك خطوة خطوة إلى أن يصل بك للمسيح وجها لوجه) تجد أن تعليمه مختلفاً. إنه لا يقدم لك نصائح وإرشادات لأنه ما أكثر الواجبات والفرائض التي يلقنها المعلمون لمريديهم، بل هو يأخذك ويقف بك بهدوء أمام وجه المسيح وحبه المتدفق وكأنه يميط حجابا من نوعٍ ما جانبا، فتنكشف لك هذه الأمور المحجوبة، فترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ترى ما قاله ربنا لـ مرثا: إنْ آمنت ترين مجد الله (يوحنا  11:40). عندما تسمع الأب متى المسكين تشعر أنك (وقد انتقلت أنا نقلة جذرية من دين الآباء والأجداد الذي فُطرت أنا عليه) بأنه يغمرك حب شديد يأخذ بمجامع قلبك تجاه هذا المسيح الذي يحدثك عنه الأب متى وتقول: أريد هذا المسيح. أريده الآن. و تذهب خارجا كطفل يجري هنا وهناك أو كهذا الإبن الضال الذي يهرول للقاء أبيه فتخرّ أمام المسيح ساجدا: ربي وإلهي. كل هذا و الآب متى المسكين يقف جانبا في براءة الطفل ويشاهد حب الله يتدفق وكأنه المحيط يندفق دفقا في قلب المؤمن "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا".

 

كنت أتهيب الأرثوذكسية وأخشى أنها ردة من دين تركته إلى دين جديد أستبدلها بها ولكن بقراءة الأب متى المسكين وسماعه عرفت أن الأرثوذكسية ليست دين ولكن هي دعوة لمعرفة الإله المتجسد كي نصير نحن أبناء وبنات الله وهذا هو إمتياز "التألّه" في شراكة للطبيعة الإلهية (2 بطرس 1: 3 و4).  أمام الأب متى المسكين الكاهن الأرثوذكسي لن نخشى أن يتهمنا أحد بتهمة الجمود لأن الطقس هنا يصبح مكشوفاً بكل رموزه العميقة المكتنزة بالمعاني، ونعرف أن إيماننا ليس مسائل حسابية ولكنه مليء بالإشارات والدلائل ذات المعاني العميقة، وفي كل ممارسة طقسية نجد سر المسيح مخبئا وعلينا أن نسعى مبتهجين لكشفه أو هو بالأحرى يكشف لنا عن نفسه بنفسه في السرّ؛ والمسيحية هنا هي مسيحية سرائرية حيث الجملة الواحدة في بساطتها التي يفهمها أي طفل هي أيضا مركبة وذات بعدٍ أكثر من واحد. عندها نعرف أن إيماننا المسيحي ليس مجرد "عقائد" و "أركان إيمان" بل هو إيمان سرائري كله أسرار يهمس فيها صوت المسيح بقوله: "الذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي" (يوحنا 14: 21). هنا المعرفة قائمة على وجود الحب أولا وبدون الحب لن نعرف أسرار الإيمان، ولتقل كتب العقائد ما شاءت فالإيمان المسيحي هنا ليس أركاناً وفرائضَ إيمانٍ بل هو "سر الرب" و الذي هو لخائفيه.

 

 أيضا بهرني الأب متى المسكين في حبه الصادق والواثق للمسلمين، وشتان بين الحب عن ثقةٍ وصدقِ نفسٍ والحب عن مبدأ "مجبر أخاك لا بطل". لا تملك أمامه أن ترى الناس بتقسيمات عقائدية: هذا إلى الجنة و ذاك إلى النار..، بل ترى الخليقة كلها مشمولة في حب الله الأبدي الأزلي وجميعهم "ذريته". هنا يستعلن خلاص المسيح للجميع بأني يعلن النور عن ذاته والنور هنا يقوم بعمله دون حاجة إلى أبواق وصراخ الوعاظ وحسب المؤمن عندئذ أن يثبت في اتحاده بالمسيح والمسيح يجذب الناس إليه.

 

 تعلمت منه أن المسيحي الحقيقي يطبق حرفيا وصايا المسيح فهي ليست لزمن غابر تحتمل المجاز بل هي وصايا حرفية، وعندما يطلب منا أن نصفح حتى وإن لم نشعر بالصفح فهذا إلزام لنا وعلينا وإلا بقينا في الظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان. عندها نفهم جيدا معنى انتصار الصليب وأن نغلب ذواتنا كما يؤكد في تعليمه وإلا فكلامنا عن قيامة المسيح وغلبته يصبح مجرد شعارات فارغة.

 

عند الأب متى المسكين، التنسّك ليس جهاداً فردياً بل جهاد النعمة كما علم القديس مار إسحق السرياني، فكما أن الخلاص بالنعمة فكذلك الجهاد يكون أيضا بالنعمة، وعندها علينا أن نذكر ما قاله لي ذاك القبطي العجوز: "يا بني إجمد فيه  وهو ها يجمد فيك". لا نتكل في جهادنا على مفهوميتنا أو محاولاتنا الفردية بل الرب نفسه يعمل فينا، والرب نفسه يصلي فينا بروحه، والرب نفسه يجدد إنساننا الباطن العتيق.

 

مع الأب متى المسكين أحببت الإنجيل وأردت أن آكله أكلا وأقرأه مرارا وتكرارا فأجد أني أمام "غمر ينادي غمر" وكلام أبعاده عميقة بلا حدود وفيها صوت ربنا لبطرس: يا بطرس ابعد إلى العمق. مع الأب متى المسكين لن نقرأ الآية ونقف عند المعنى الظاهر لنا بل سنجد المسيح أيقونة الآب يكشف لنا وجه الله الجميل فيها، ونريد من خلال الآية أن ندخل لقلب المسيح ونقيم هناك. كم أنا شاكر أن تكرم صديقي روماني وأكرمني في عطائه بمجموعة سي دي "أقراص مدمجة" لجميع عظات الأب متى المسكين. ويا للعار أن هذا الكنز عندي ولا أغترف منه من يوم إلى يوم أو من أسبوع لأسبوع، ولا عجب فيما يتبع ذلك من قحط روحي وجفاف وسلوك جسداني. نحن بحاجة إلى معلمين ومرشدين مثل الأب متى حتى يأخذوا بيدنا إلى المسيح مباشرة ونتعلم أن ننتصر على غضبنا وأن لا نثأر لذواتنا بل ليكون شعارنا دوما كما قال الأب متى في تفسيره لرسالة أفسس مقتبسا آية إشعياء النبي: "حقي عند الرب" (إشعيا 49: 4) وحسبنا إله كهذا وهو نفسه كفاية جميع حقوقنا وما نريد. هذا الرجل على مثال المسيح يرفض أن ينشق بل يخضع خضوع المسيح الكامل لمن اضطهدوه وحرقوا كتبه وازدروا بها متحدثا بكل احترام وحب ووقار لمن يرأسوه وآبائه في الرهبنة، فعرفنا أن المسيح حقا هو خضوع التواضع لا غطرسة الاعتداد بالذات ورد الصاع بمثله مما يؤدي للشقاق والانقسام والمسيح يضم كنيسته إلى وحدته السرائرية مع أبيه.

تيموثاوس إبراهيم، 

timothyinchrist@gmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط