سيمون جرجي / Mar 28, 2006

منذ صغري وأنا أتطلع إلى تلك البطاقة الصغيرة المتداولة بين أيدي البالغين، كحلمٍ لابدَّ لي من نيله، تلك البطاقة التي تحمل كامل حريّة الشعب وديمقراطيته في التعبير عن حقه الطبيعي في اختيار ممثليه لحكم الوطن الصغير الكبير في آن معاً. لم يطل الأمر كثيراً حتى حصلت على تلك البطاقة المدعوّة "البطاقة الانتخابيّة" والتي تمكنني أسوة بالبقيّة من التعبير عن آرائي وأفكاري، من خلال الاختيار الحرّ والواعي لمن هو أهل ومستحق أن يمثل المواطن في المجلس النيابي أو في منصب رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة.

 

استعملتُ حقّي هذا مرة واحدة وإلى الأبد، وفي لبنان، وهنا تكمن المفارقة. أن أعبر عن حقي في انتخاب رئيس وطني في أرض شقيقة كما يقولون، في وطن آخر كما هو الواقع. كنتُ طالباً جامعيّاً آنذاك في سنتي الأولى عندما حان موعد الانتخابات الرئاسيّة. فتجمعنا نحن الطلبة السوريين وذهبنا نحو المركز الوحيد للتعبير عن حقِّنا ورأينا في انتخاب رئيس الوطن.

 

لم يكن مجال التعبير هذا واسعاً، لا بل على العكس كان ضيّقاً جداً، فالمرشّح الوحيد كان الرئيس الراحل حافظ الأسد. وأمام هذا المجال الضيّق الخانق، اصطففت بدوري منتظراً تعبيري "الديمقراطي" للمرة الأولى في حياتي وعلى ما أعتقد أنها الأخيرة. كانت المناسبة مميّزة فعلاً، فالانتخابات وُضعت تحت تسمية "إلى الأبد"، ما يعني أن تنتخب مرشّحاً وحيداً وإلى الأبد. هذه الكلمة الحافلة بالخلود والتي لا نسمعها أبداً إلا في الطقوس الدينيّة التي تعتمدها المبدأ الأساسي والنهائي في عبادة الله الواحد والوحيد. لابدَّ لهذه الكلمة هنا وانطلاقاً من التاريخ الروماني أَن تُذكّرنا بعبادة الامبراطور كإلهٍ أبديّ إليه تُقدّم العبادة والسجود. وإليها نفسها كانت تُشير هتافات الجماهير محيّين رئيسهم المفدّى زعيم الأمة وحامل أمجادها: "حَلَّكْ يا الله حَلَّكْ، حافظ يقعد مَحَلَّكْ"

 

المهمّ حانَ دوري، وكانت امرأةً من قدّمت لي البطاقة التي سأوقّع عليها قبولي بهذه القيود الأبديّة بكامل حريتي وإرادتي وبكامل وعيي وتعبيري الشخصيّ. ما أزعجني في الأمر ليس كلّ هذا، بل شيء واحد فقط وهو أنّ البطاقة، التي كانت مقسومة إلى قسمين أحدهما ممهور بكلمة "نعم" كبيرة والآخر بكلمة "لا" أصغر، وكأنها هي الأخرى لا تُريد الظهور خوفاً على عنقها؛ كانت موقّعة في قسم الـ"نعم" وجاهزة للوضع في صندوق الاقتراع. كثيرون وقعوا بدمائهم، سبق أن أحضروا معهم شفرات حلاقة ليحفروا في أباهمهم قنواتٍ تفيض دماً به يوقّعون على عبوديّة لطالما أراقت دماء الحرية. تمنّيت تلك اللحظة أن تأتيني الشجاعة لأحدّث بمشاعري وأصرخ قائلاً: دعوني أقلّه أمهر "نعمي" هذه. تكاملت المنغّصات عندما وضعت تلك المرأة بنفسها بطاقتي في صندوق الاقتراع، حينها لم أتمالك نفسي من التمتمة بكلمات شئت لها ألا تُسمع قائلاً: اتركوا لي آخر مجال، فأضعها أنا بنفسي في ذاك الصندوق اللعين، ذلك الصندوق الذي احتوى ليس فقط على تذلل شعبٍ بأكمله، لا وليس فقط عبوديّة أفراد علمونا هاتفين على لسان عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا. ألم يكن عربيّاً ذاك الخطّاب؟ بل احتوى أيضاً على أشياء وأشياء.

 

انتهى الاقتراع بطقوس لا تخلو من المُبكي المُضحك و"شرُّ البليّة ما يُضحك"، باسترداد هويّتي المُشيرة إلى مواطنيّتي السوريّة. كانت العمليّة سهلة جداً: قدّم هويّتك واستردّها بعد عدة ثوانٍ لا أكثر. وطني يُقدّر ألا يُحمّلني جهداً في الشطب والحك، والمهر والتوقيع، لا بل يُقدّر ألا يدعني أتعب نفسي بالتفكير أمام بحر الاختيارات بين المرشّحين، ولهذا سبق ورشّح واحداً، سبق وقال نعم منتهزاً فرصة قبولي بسكوتي عن حقي، وأخيراً شاءَ ألا أُتعب يدي هي الأخرى في وضع الـ"نعم" في صندوق الاقتراع. لملمنا بعضنا وركبنا حافلتنا عائدين من حيث أتينا وفي قلبنا غصّة لا قدرة لنا على انتزاعها.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط