سيمون جرجي / Dec 31, 2004

(المقالة التالية بعث لنا بها الأب شربل صموئيل ردا على مقالتين نشرتهما جريدة النهار كانتا هما أيضاً رداً على مقالة سابقة له نشرت في الصحيفة المذكورة. ومن أجل توضيح الأمور للقارئ فإننا نعيد في نهاية هذا الرد نشر المقالات الثلاث.)

*********   

 

الأب شربل صاموئيل ـ روما

31 ديسمبر 2004  

 

في صفحة "قضايا النهار" من يوم الخميس 16 كانون الأوّل 2004 نشر السيّد أديب جبور مقالاً مليئاً بادّعاءاتٍ تاريخيّة وانتقاداتٍ لاذعة، كتبها ردّاً على مقال الأستاذ شعبان عبود ("النهار" 30 تشرين الثاني 2004)، وعلى تعقيبي على هذا المقال (7 كانون الأول 2004).

استندَ الأستاذ شعبان في حديثه عن جريمة الحسكة إلى سيادة المطران روهم وإلى حضرة السيّد أديب جبّور، وخاصّة عندما تطرّق إلى ذكرها كسبب يؤثر في التآخي المسيحي- الإسلامي، ويدفع إلى الهجرة والتفكير في مكانٍ آمن. يقول السيّد أديب إنه لم يتفوه بهذا الكلام وبيّنَ أنَّ "جريمة القتل التي وقعت أخيراً، كما يحصل في كثيرٍ من بلدان العالم، والتي يُحقّق فيها القضاء، وهي لم تؤدِّ ولن تؤدّي إلى أيّة هجرة خارجيّة أو داخليّة أو تعكّر جو التآخي الإسلامي المسيحي" (على عكس ما أبداه سيادة المطران روهم من موقفٍ معتدلٍ وطبيعي كنتيجة لأي مشكلة أو جريمةٍ تحدث حتّى بين أبناء الدين الواحد، كما يشهد التاريخ على ذلك)، وهنا يقع السيد أديب في زلة قلم ليؤكد أنّه قال هذا الكلام لكنّه لم يطلب نشره ولا حتى الحديث عنه. وكأن نشر الكلام بات مخيفاً إلى هذا الحدّ. لكن النتيجة في الواقع هي أنَّ أكثر من عشرين شابّاً (لا أعلم العدد بالضبط) لا زالوا رهن الاعتقال وقيد التحقيق، مما يعني أن الأزمة لم تنتهِ.

لا أعلم أنا، ولا حتى أيّ مؤرخ على وجه البسيطة، أن التغالبة جاؤوا من ماردين!! وهنا يرصف السيّد أديب القبائل والعشائر العربية دون أي ترتيب، (نقلاً عن المطران روهم كما يقول)، خالطاً شعبان في رمضان. ولإزالة بعض الغموض عن هذا، سنذكر بإيجاز لمحة عن تلك القبائل وأماكن استيطانها في الجزيرة (انظر مجلة "المشرق" اليسوعية، السنة 15، ص145؛ والخورأسقف اسحق أرملة + 1954 في كتابه "القصارى"، ص5-7): كانت ديار ربيعة بين الموصل ورأس العين وماردين ودنيسر والخابور، أما ديار بكر فهي بين ديار ربيعة وديار مضر، وتُنسب إلى بكر بن وائل.. بن ربيعة بن نزار، وحدّها ما غُرّب من دجلة إلى بلاد الجبل المطلّ على نصيبين، ويدخل فيها جبل الطور البرّي وهو لبني شيبان بن بكر بن وائل. أما اليوم فتطلق تسمية "ديار بكر" على مدينة آمد السريانية (تقع في تركيا). ديار مضر هي السهول القريبة من شرقيّ الفرات كحرّان والرقّة وشميشاط وسروج والرها، سكنها بنو تميم وبنو سليم وأخلاط مضر، ومضر هذا هو أخو ربيعة بن نزار. أمّا قبيلة تغلب فتعود بنسبتها إلى وائل بن قاسط بن هنب بن افضي بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان (للمزيد راجع "أصدق الدلائل في أنساب بني وائل"). وبالتالي فتغلب وبكر هما أخوة من أبناء وائل...بن ربيعة.

يُعيد السيّد أديب ما قلناه في تعقيبنا الأوّل حول آزخ ولغتها العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، وكأنّه يضيف شيئاً جديداً بقوله: "ومن الملاحظ". مع العلم أن آزخ هي البلدة الوحيدة في كل أنحاء الجزيرة النهرينيّة التي لم يتمكن الأتراك والأكراد من دخولها أثناء مذابح السفر برلك، وهذا دلالة على صلابة أهلها وقوتهم، وخصوصاً في كنف حماية عذراء آزخ التي ساعدت الأهالي في قهر المحاصرين، بشهادة أحد الضباط الألمان الذي ترك موقع الحصار بسبب صوت مدفعية رهيب كان يخرج من كنيسة البلدة، ولا تزال هذه الرواية شائعة في صفوف مسيحيي الجزيرة الذين يلتجؤون إليها قائلين: "يا عَزْرتْ آزخ هاواري لَيْكي" (يا عذراء آزخ صراخي إليكِ).

يُشير إلينا السيد أديب وللمرة الأولى في أننا ثرنا على الكلام المنسوب إلى سيادة المطران روهم زوراً (عدم المصداقية في ما نُشر) ويقول إننا تطلعنا بدورنا للرد على مقال الأستاذ شعبان، ما يعني أن هناك رداً سبقنا، ويا ليته يخبرني أين أجد هذا الرد الأول؟ لا بل ويغلّط الأستاذ شعبان في نقله الأقوال التي نسبها إلى المطران روهم ويلقي علينا تبعة تقصير الهمة في عدم "تكليف نفسنا عناء البحث والاستفسار من نيافته رغم قرب المرجع وسهولة الرجوع إليه، وهو لا يعلم أن سيادته يبعد عني آلاف الكيلومترات، ولا أعتقد أن هذا من السهل بمكان ليمكنني من الوصول إليه لمجرد سؤاله عمّا إذا كان الأستاذ شعبان كاذباً أم لا! مع يقيني أن الأستاذ المذكور لم يضف أو ينقص كلمة واحدة مما قيل أمامه. أما عناء البحث والاستقصاء فهذا كان من واجبك أنت يا سيّدي الكريم، فلو كلفت خاطرك قليلاً لعلمت أني في روما، ولألغيت هذا الحكم الذي أطلقته علي غيابياً.

أن ينصب الإنسان نفسه ناقداً بارعاً ومصححاً ومؤرخاً، فهذا دليل على ثقته بالمعلومات التي يطرحها، وإذا غضينا الطرف قليلاً عن هذه الثقة، فأين الضيم في ذلك؟ وهل هذا من عيوب الألف الثالثة؟ أجل فالنقد والتصحيح والتأريخ هما من الكفر عند السيّد أديب، ومن عيوب هذه الألف التي يتواجد فيها أشخاص يحملون مثل هذا التفكير، أما عني فأنا أفتخر بما تعلمته على مقاعد الحرية الفكرية في جامعة الروح القدس-الكسليك، التابعة للرهبانية البلدية المارونية الأولى بين رهبانيات الشرق دون منازع. وبالنسبة للعنوان الذي دفعك إلى العجب العجاب أخبرك أن إدارة "النهار" من اختاره عنواناً لتعقيبي البسيط، بعد أن كان "الحسكة مدينة شابّة أمام التاريخ"، وأنا مسرور لذلك في شطره الأول لا الثاني، أعني "خلافاً لما قاله المطران روهم"؛ لأني لم أكتب لأخالف سيادته مباشرةً، بل لأشير إلى وجهة نظري في الفرق بين العرق السرياني وشقيقه العربي.

أنا لا أستطيع منعك _ولا أحد يمكنه ذلك_ عن الافتخار بالعرب والعروبة، لكني أطلب منك ألا تمنعني، أنا بدوري، عن الافتخار بسريانيتي، تماماً كما يفتخر الكردي بكرديته والأرمني بأرمنيته. يكفيني فخراً أن بلدي الحبيب سوريا يستمد اسمه من قوميّتي ومن لغتي، ناهيك عن أسماء مئات المدن والقرى التي تحمل وسم لغتي التي زادها السيّد المسيح وأمه العذراء تبجيلاً وتكريما. هل تريد أن أكمل لأقلب صفحات التاريخ التي تتكلم بإعجاب عن الممالك الآرامية التي لا تزال آثارها تُشرق في بلادي وتستقطب الملايين من السواح. وقد كان من الصعوبة بمكان التفريق بين كلمة "سوري" و"سرياني" في اللغات الأجنبية، حتى مرحلة متأخرة نهض فيها الاستشراق وتعرف على اللغات السامية، وبات قادراً على التمييز بين الجنسية التي تشمل عدة أعراق وقوميات وبين اسم أحد الشعوب في هذا البلد العريق.

أوجه إلى السيد أديب سؤالاً، وهو يحدثنا عن الأعلام العرب البارزون في الكنيسة السريانية، قائلاً: أين هم هؤلاء الأعلام؟ وهل هم عرب باللسان أم عرب بالانتماء؟ وأرجوك هنا ألا تصفني بالتنصّل من العرب والعروبة "هذا الفخر الذي لا نعاب عليه"، كما سبق وذكرت حضرتك، فإذا قلت أنا سرياني أو أرمني أو آشوري أو حتى كردي، لا أعتقد أن هذا سيعني لأحد يوماً التنصل من العروبة، ولماذا مثلاً لم تقل إنه تنصل من الأرمن والأرمنية؟ ما الفرق في ذلك؟

يخلط السيد أديب بين السريان والعرب كشعبين مستقلين وبين انتمائهم إلى كنيسة واحدة، أما السبب الذي جمع العرب بالسريان تحت سقف هذه الكنيسة الواحدة، فهو مناهضة المجمع الخلقيدوني (451)، فلا العرق ولا اللغة فعلا ذلك، بل الانتماء الكنسي هو من قام بهذا، ومن الأساقفة العرب والأساقفة السريان تشكلت الكنيسة التي دعيت على مرّ الأزمان بعدة تسميات، كاليعقوبية والمونوفيزيتية (الطبيعة الواحدة)، وهي الكنيسة السريانية بفرعيها الأورثوذكسي والكاثوليكي اليوم. وبالنسبة لآحودامه (+575) واسمه سرياني يعني "أخو أمه"، فهناك روايتين حوله، الأولى تقول إن يعقوب البرادعي أسقف الرها هو من نصّبه أسقفاً على كرسيّ تكريت، والثانية تُشير إلى أنَّ جاثليق الأرمن خرسطوفور نصّبه أسقفاً لباعربايا. الرواية الثانية، وهي التي اعتمدها السيد أديب، هي محض اختلاق، والدليل على سقوطها عدة أمور، أولها أن "باعربايا" كانت متروبوليتية وليست أسقفيّة، وقد كانت تخصّ كنيسة المشرق (الديوفيزية)، ثانيها أن آحودامه كان مونوفيزيتياً أصيلاً، ثالثها أن التاريخ يشهد على ولادة المونوفيزيتية في ما بين النهرين في أسقفية تكريت التي توارثها المفارنة اليعاقبة (السريان) في ما بعد وليس في متروبوليتية باعربايا التابعة للنساطرة (كنيسة المشرق)، والتي كانت تُخضع أكثر من 13 أسقفيّة من بينها بيث زبداي على دجلة (آزخ اليوم)، ولا مجال هنا لتعداد جميع الأسقفيّات.

يصل السيّد أديب إلى أوج ردّه فيقول: "ألا صدق صاحب النيافة في ما قال وإن كره المشككون"، وهو لا يعلم أنه بهذا يناقض نفسه للمرة الثانية، إذ سبق وذكر قبل عدة أسطر، أن ما نشره السيّد شعبان عن أقوال المطران روهم لا مصداقيّة له، وهذا ما استثارني أنا، لأهب ناقداً ومصحّحاً ومؤرّخاً. يسأل السيّد أديب عن الأعداد والنسب، ولا أعلم لمن يوجه سؤاله، وفي حال توجيهه لي، أخبره بأن الكهنة أبسط ما يعرفون هو تعداد رعاياهم، مع أني أضفت إلى النسب الثلاث قليلاً. ولماذا يحدثنا عن الحواجز التي لم يضعها أحد أمام الأستاذ شعبان ليصل إلى بقية الكنائس، وكأن هناك من اتهمه بذلك، على الرغم من أني عزيت ذلك إلى تقصير من كاتب المقال نفسه. وعندما تكلمت عن دور السريان الكاثوليك، المتواصل حتى اليوم، في بناء هذه المدينة الفتية أمام التاريخ، لم ألق الكلام جزافاً؛ فالمدرسة الأولى التي افتتحها الأب بطرس ميرزا (+1978)، لا زالت تواصل رسالتها حتى اليوم، تحت اسم مدرسة "الموحّدة"، لا بل هي اليوم أقوى وأنصع عما كانت عليه سابقاً بعد مرورها بعدة مخاضات، وتعتبر الأولى على مستوى المحافظة، من حيث نوعية الطلاب، والمعلمين، والمختصين، وجميع الكادر الإداري القائم على تسييرها، وعلى رأسهم سيادة المطران مار يعقوب بهنان هندو، الذي يبذل من وقته وجهده الكثير في سبيلها، عالماً أن العلم يبني الأوطان والشعوب.

في الختام لا بدّ من التذكير منعاً لأي التباس، بأن القبائل العربية التي دخلت يوما الكنيستين اليعقوبية والنسطورية، اعتنقت الإسلام، كما يذكر هذا جميع المؤرخين السريان وعلى رأسهم ابن العبري، وما يؤكد ذلك أن السريان بقولهم "طايويي" يعنون المسلمين، مع أن الكلمة تترجم بـ"الطائيون" (المنتمين إلى بني طيء). والافتخار بالقومية السريانية لا يعني أبداً احتقار أي قومية أخرى، بل على العكس تماماً، تعني السعي معاً لبناء وطن واحد. وهنا نستعيد ما قاله الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما اجتمع بالسينودس السرياني الأرثوذوكسي: "لا يُعطاكم ما هو لكم، سوريا بلدكم"، وهي بلد جميع السوريين على اختلاف مللهم ونحلهم. ولن يفيد وحدة وطننا هذا السعي الدؤوب إلى تذويب الجميع في بوتقة القومية العربية، لا بل يغنيه إظهار الفسيفساء المتناسق الذي يشكل بمختلف ألوانه لوحة سورية خلابة.

************

فيما يلي المقالات الثلاث التي اشرنا إليها أعلاه:

مسيحيو "الجزيرة" السورية:

الهجرة المتواصلة و"التاريخ الودي" مع المسلمين

شعبان عبود ـ الحسكة

"النهار" الثلاثاء 30 تشرين الثاني 2004  

في وسط مدينة الحسكة ، وقرب فندق "الحمرا" يقع العقار (1). وهذا رقم أول منزل بُني في المدينة، شيّده عام 1890 رجل مسيحي قدم من قرية "قلعة مرا" قرب ماردين التركية، هذا الرجل الذي لم يكن يدري أنه يؤسس لمدينة تضم اليوم نحو مليون ومائتين وخمسين ألف نسمة، اسمه عبد المسيح موسى ويعرفه الأهالي بـ"عميس موسى".

أهمية الرجل المؤسس لا تنبع فقط من كونه أول من سكن الحسكة، بل لكونه وإخوته الذين قدموا معه، هم من أسسوا لعلاقة التآخي القائمة إلى اليوم ما بين المسيحيين والعشائر العربية ، وخاصة عشيرة الجبور، فقد كان "عميس موسى" وإخوته يجلبون من ماردين الشاي والسكاكر والسلع ليقايضوا العشائر بمنتجاتهم الحيوانية من أصواف وسمن وبسط وغيرها، إلى أن استقروا نهائيا في الحسكة التي  صارت  مع الوقت مركزا لحركة تجارية و"صناعية" نشطة، وبعد أن تكرست كمدينة في عشرينات القرن الماضي على خلفية موجات الهجرات القسرية للمسيحيين من جنوب شرق تركيا بعد سلسلة من حوادث الإضطهاد الديني. وكذلك بعد موجة من الهجرات الفردية والعشائرية الداخلية، ومن المحافظات السورية المجاورة، وخاصة من دير الزور.

عشيرة الجبور لعبت دورا كبيرا في احتضان جموع المسيحيين الهاربين من الاضطهاد العثماني، حتى أن رجال العشيرة تزوجوا الكثير من النساء المسيحيات الأرمنيات حماية لهن و"إيواء". وإلى اليوم ما زالت أمهات وجدات من أصول أرمنية مسيحية يسكنَّ ريف الجزيرة السورية، الريف الذي يطلق على أبنائه اسم "الشوايا" لتمييزهم عن ابناء المدن. ولا يحمل هذا المصطلح المتداول أي دلالات أثنية أو طائفية ، فهو يطلق على جميع سكان الريف سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين، ومثال ذلك "المسيحيون الطوارنة"، نسبة إلى جبل الطور، الذين يعتبرهم مسيحيو المدن "شوايا" أيضا.

في هذا السياق، هناك في "الجزيرة السورية"، وهو التعبير الجغرافي المتداول كناية عن محافظة الحسكة التي تبلغ مساحة أراضيها  2333 ألف هكتار وتقع مجمل أراضيها بين نهر الخابور في الغرب ونهر دجلة الذي يشكل مجراه الحدود الطبيعية مع تركيا شرقا، نقول، هناك في الجزيرة السورية الكثير من القرى والبلدات المسيحية التي تشترك مع العشائر والبدو في اللباس والعادات وطريقة السكن الى درجة يصعب التمييز بينهم.

وبالعودة الى العلاقات المسيحية العشائرية، لا بد من التذكير أنه ليس العرب فقط من عشائر "الجبور" هم من بدأ هذا الود العشائري المسيحي المستمر إلى اليوم، فالذاكرة المشتركة  ما زالت تتحدث عن الزعيم العشائري مسلط باشا الذي سجنته السلطات العثمانية، وقام مسيحيو "قلعة مرا" بتهريبه من سجنه بطريقة لا تخلو من شجاعة. كذلك فإن عشيرة كبيرة في الجزيرة هي عشيرة "طيّ" تعود الى أصول مسيحية، وقد كان لها أبرشية ومطران قبل إشهارها الإسلام حتى عهد قريب. كذلك فإن غالبية المسيحيين في الجزيرة وخاصة السريان يعودون في أصولهم الى أصول عربية عشائرية، وتحديدا  الى بني تغلب.

أخبرني المطران متّى روهم، مطران أبرشية السريان في منطقة الجزيرة  ودير الزور: "نحن تغالبة، حاربنا جنبا إلى جنب ضد الفرس والرومان، و رغم أن بعض من حاربناهم كانوا من ابناء ديننا، لكننا كنا مع أبناء عمومتنا، نحن عرب، ألم تسمع القول الشهير : لولا الإسلام لأكلت تغلب العرب!!"

ربما بسبب هذا التاريخ الودي، لم تشهد منطقة الجزيرة السورية أي حوادث عنف طائفية تذكر، لكن يجب أن نعترف أنه، رغم كل هذا التآخي العشائري المسيحي، ثمة تشنجات تطفو على السطح بين الحين والآخر، كالتي  حصلت أخيراً حين قام رجل من عائلة الراضي المسلمة التي تعود الى أصول "ديرية" بقتل رجلين مسيحيين في قلب مدينة الحسكة لأسباب  تتعلق بخلافات مالية.

ورغم أن الحادث لم يأت على أساس طائفي،  قال لي أديب جبور، مدير المصرف السابق في المدينة، وهو مسيحي، إن بعض المسيحيين تأثروا للغاية بسبب هذه الجريمة التي "قد تجعل عشرات العائلات المسيحية تفكر بالهجرة...".

والمفارقة أن أسرة القاتل، هي الأسرة المسلمة  الوحيدة التي أسكنها المطران قورياقوس في وقف يعود للكنيسة دون أي مقابل عندما وصلت الى المدينة قادمة من دير الزور منذ عشرات السنين، ويحظى هذا المطران الذي توفى منذ ما يقارب الخمسة عشر عاما، بسمعة طيبة عند الجميع، ويعتبر من الرجال الوطنيين. فقد كان له موقف من الاحتلال الفرنسي لسوريا. ويذكر الأهالي بفخر أنه ذهب إلى اللاذقية لإرجاع حوالى 200 الى 300 عائلة مسيحية كان الفرنسيون يهمون بترحيلهم معهم  عشية خروجهم من سوريا. وكونه كذلك "قام الرئيس حافظ الأسد بتكليف من يلقي كلمة عنه بعد وفاته".

من ناحيته يرى المطران متى روهم انه "عندما تحصل مشاكل معينة بين أفراد مسلمين ومسيحيين، ولو بدأت شخصية ومحدودة، سرعان ما تأخذ ابعادا طائفية ودينية، ومثل هذه المشاكل تؤثر في حياة الإنسان وقراره، وتجعله يفكر في مكان آمن". ويضيف: "نحن بحاجة لدولة القانون، إسوة بما هو موجود في الدول المتقدمة، فالتطبيق الجيد للقانون من جانب الدولة يساهم إلى حد كبير في التخفيف من تطلعات شبابنا للهجرة نحو دول متطورة. لكن رغم ذلك نحن ضد الهجرة ونحاول أن نعمل ما بوسعنا لمساعدة شبابنا على البقاء هنا...".

من أجل ذلك قامت أبرشية السريان بتنفيذ العديد من المشاريع  في المنطقة مما يساعد على توفير متطلبات الشباب المسيحي. فالأبرشية ترعى حوالى 5000 تلميذ يتوزعون على عدد من المدارس الخاصة. وفي مجموع الأديرة التي تشرف عليها تقام دورات من أجل تعليم اللغات والكومبيوتر. وهناك مشروع المعالجة الفيزيائية بالمياه الكبريتية لخدمة أبناء الجزيرة، وسيقام المشروع في قرية الناصرية بين الدرباسية والحسكة، وسيسمى باسم القديس مار آسيا الحكيم. وحسب المطران روهم، سيستفيد من هذه المشاريع الجميع سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين: "في دير تل الورديات نقدم خدمات لكل الناس، يوم الجمعة تذهب العائلات المسلمة إلى هناك وتدعو لي، ويوم الأحد تذهب العائلات المسيحية وتدعو لي...".   

سألت المطران: لكن هل هذا يكفي لوقف الهجرة المسيحية؟ فأجاب: "ربما هناك مخططات فوق طاقات المنطقة، تصب في مصلحة إسرائيل لأنها دولة قائمة على العنصرية، ولا نستبعد أن تكون إسرائيل وراء ما حصل في العراق من تفجيرات طالت بعض الكنائس و يجب الا ننسى أن المجتمع الغربي هو مجتمع متطور يقدم إغراءات كبيرة لشبابنا ليس للمسيحيين فقط بل للجميع، هو يغري الشباب في مجتمعات أخرى مثل الهند والصين وروسيا. الديموقراطية تغري، دولة القانون والعدالة تغري، والأنظمة الغربية لا تصدر هذه المغريات الينا بل تعيشها وحدها وتقدمها لمجتمعاتها".

من ناحيته يرى الصحافي جوني عبو وهو من أبناء المنطقة ويعمل مراسلا لصحيفة "البلد" اللبنانية، أن "خلق بيئة مناسبة للجميع بغض النظر عن الانتماءات الطائفية كفيل بوقف هجرة الشباب، مثل توفير فرص عمل لخريجي الجامعات وتحسين مستوى الدخل وتوفير هامش حريات أكبر، كحرية التعبير، والمعتقد، والمقصود الناحية الإجتماعية لأن النظام السياسي برئاسة الرئيس بشار الأسد  يؤمن على مثل هذه الحريات ويسهر عليها، بعكس بعض التشكيلات الاجتماعية والذهنيات التي لا تراعي الخصوصيات الدينية والطائفية".

ونظرا الى غياب إحصاءات دقيقة، يجمع مسيحيون التقيتهم من أبناء المنطقة ومنهم المطران روهم على أن عدد المسيحيين المتبقين في منطقة الجزيرة يبلغ اليوم حوالي 150 ألفاً بينما يصل عددهم في بلاد المهجر إلى ما بين 200 و225 ألفاً، وغالبا ما يفضل المسيحيون السريان  الهجرة إلى السويد والمانيا وفرنسا  واستراليا، في حين يفضل الآشوريون كندا والولايات المتحدة وخاصة شيكاغو حيث توجد جالية كبيرة. إضافة إلى هذه الهجرات، هناك الهجرة الداخلية نحو كل من حلب ودمشق، ومنذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي هاجر الكثير من مسيحيي الجزيرة، السريان على وجه التحديد، نحو حلب، أما الذين لم يهاجروا إليها فغالبية منهم يملكون بيوتا في المدينة نتيجة لكثرة ترددهم عليها وارتباطهم التجاري والاجتماعي بها.

ويشكل السريان الارثوذكس الغالبية من مجموع مسيحيي الجزيرة السورية ويقدرون بأكثر من  80% ، في حين يوجد في عموم المحافظة عشرات الكنائس، تحظى مدينة الحسكة على نحو 10 منها. أما الآشوريون يبلغ تعداد من تبقى منهم حوالي 20 الف نسمة. و يعود هذا التفاوت في العدد  الى كون الآشوريين وفدوا إلى المنطقة في حقبة حديثة زمنيا، هي نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، قادمين، كما الكلدان، من  العراق نتيجة التهجير،  بعكس السريان الذين يعتبرون من أبناء المنطقة الأصليين وسليلي حضارة كبيرة هي الحضارة الآرامية.

ويتوزع السريان على مدن القامشلي والحسكة والمالكية والقحطانية ورأس العين،  التي تسمى باللغة السريانية ريش عينو، وبعض القرى في حين يتوزع الآشوريون على ضفاف نهر الخابور، وتحديدا في المنطقة التي تقع ما بين الحسكة ورأس العين حيث يمر النهر.  وابرز مدنهم ومراكز تجمعهم هي، تل تمر وتل جمعة  وتل أبيض وتل هرمز وغيرها، ويصل مجموع القرى الى نحو ثلاثين، ما زالت إلى اليوم تتحدث اللغة الآشورية. كذلك ما زال الآشوريون يحافظون على تراث كبير من الفنون ابرزها الرقص المميز حيث لكل مناسبة رقصتها الخاصة.

أخبرني المطران روهم أن الفضل في زراعة الشجرة المثمرة في منطقة الجزيرة يعود الى الآشوريين "الذين ذهب بعضهم إلى حلب وحمص والساحل السوري ودمشق ولبنان وجلبوا معهم أشجار التين والتفاح والإجاص وغيرها".

ويؤكد المطران روهم: "الوجود المسيحي وجود فعال، لولا هذا الوجود لكانت المنطقة عبارة عن بداوة،  المحافظات التي لا يوجد فيها مسيحيون لم تستطع الدولة أن ترفع من شأنها... المسيحيون هم أول من أدخلوا الآلة الزراعية الى المنطقة قبل الدولة، الأراضي المستصلحة أصلحها المسيحيون، الآشوريون هم أول من زرع الأرز والسمسم على ضفاف نهر جغجغ وضفاف نهر الخابور...!".

ربما تكون جميع هذه المعلومات دقيقة، فلا يعقل أن يحصل النمو والتحضر على أيدي العرب من البدو الرحل، لكن النمو السكاني المتزايد لكل من العرب والأكراد، وزيادة التحصيل العلمي الذي ترافق مع هذا النمو، إضافة الى الهجرة المتواصلة لأبناء الطوائف المسيحية نحو الخارج، وتحولهم تاليا الى أقلية في الجزيرة السورية، جعلهم يشعرون بالقلق، كما جعلهم جاهزين دائما للتركيز على تمايزهم عن بقية الجماعات، على هذا الاساس يمكن فهم سر لجوء المسيحيين إلى التعامل بطريقة لا تخلو من عنف مع حالات الزواج  بين بعض فتياتهم ورجال عرب رغم قلتها وندرتها.

أخبرني (أحمد. ش) أن أهل زوجته السريان "هددوها بالقتل. ولما عرفوا بطبيعة وظيفتي الحكومية، خافوا من نتائج تصرفهم، ففضلوا الهجرة إلى فرنسا صونا للعار رغم أن الفتاة تحبني... هم أكثر حساسية وتشنجا وتخلفا  منا في مثل هذه الأمور...".    

رغم ذلك كله، وبخلاف الأكراد، غالبا ما يلتقي العرب والمسيحيون من أصول سريانية وآشورية في الانتماء لحزب البعث. ويبدو أن السعي من أجل الحصول على مغانم وامتيازات من العاصمة، هو ما يقف وراء هذا التلاقي، وليس المسألة الايديولوجية.

فأبناء العشائر يحاولون بذلك التعويض عن النقص في التحصيل العلمي الذي غالبا ما يميز المسيحيين حيث تنعدم الأمية في صفوفهم، بينما ينم شغف السريان والآشوريين القديم بالسعي للالتحاق بصفوف حزب البعث، عن محاولات لكسر حالة اللاتوازن العددية مع أبناء العشائر. وربما بسبب هذه الهواجس، يمكن فهم إصرار بعض المسيحيين وتشبثهم بعروبتهم السياسية في الوقت نفسه الذي يتعاملون به بفوقية واستعلاء مع العروبة الاجتماعية، العروبة المجسدة بالتشكيلات البدوية والعشائرية !!.

وإذا ما كان المسيحيون وأبناء العشائر يلتقون في "البعث" لأسباب شتى، بخلاف الأكراد، فإن المثلث العشائري "العربي – المسيحي - الكردي" يلتقي في طيف الأحزاب الشيوعية السورية. صحيح أن غالبية من الأكراد انفضت عن هذه الأحزاب منذ حوالى العقد وأكثر، وصحيح أن الحضور العشائري يعتبر متدنيا مقارنة بالحضور المسيحي والكردي، إلا أن تلك الحقبة برهنت على إمكان تلاقٍ سلس للجميع في منظومة سياسية واحدة شرط أن تعطي الأولوية لسوريا قبل العروبة والإسلام.

وعلى هذه الخلفية يمكن فهم  سر الحضور الكبير للحزب القومي الاجتماعي السوري بين الشباب المسيحيين في الجزيرة، الذين تؤمن غالبية منهم بالأصول السريانية والآرامية لسوريا وليس بسوريا العربية. فهؤلاء لا يعيرون كثير اهتمام للعروبة الممثلة بحزب البعث أو الناصرية، لا بل إن بعضهم يرى في القومية العربية السياسية إلغاءً لهم ونفيا لخصوصيتهم، وقبل كل ذلك تقوية للعشائر العربية.

************

نحن مسيحيّو "الجـزيـرة" لسنا عرباً خـلافاً لما قاله المطران روهم

الاب شربل جورج صاموئيل

"النهار" الثلاثاء 7 كانون الأول 2004

كم سررتُ وأنا أتصفّح مقالاً عن مدينتي التي اشتقت اليها، عندما قرأت على صفحة "القضايا" في "النهار" الغرّاء مقالاً للصحافي شعبان عبود كتبه عن الحسكة، بعنوان "مسيحيو الجزيرة السورية: الهجرة المتواصلة والتاريخ الودي مع المسلمين"، (الثلثاء 30 تشرين الثاني 2004).

أشكر "النهار" على نشرها المقال، كما أشكر السيد شعبان على هذا العمل الذي قام به، والذي قاده الى مدينة الحسكة، وأرجو أن يُسمح لي بالتعليق على بعض الثغر في هذا المقال المذكور أعلاه.

يَنسبُ نشأة المدينة الى رجل قلعتمراوي (نسبة الى قلعة مرا) يُدعى عبد المسيح موسى، أما لقبه فهو "عمسي موسى" وليس "عميس" كما كتبته "النهار" مرتين. ويقول إن المنزل الاول يعود الى 1890، وهذا تاريخ مبالغ فيه، اذ كانت العلاقة التجارية التي تربطه بالعشائر العربية تقع في منطقة بجانب "المخلط"، وهي النقطة التي يلتقي فيها نهر الجغجغ المنحدر من الشمال بنهر الخابور الآتي من ريش عَينو الآرامية الاصل. بينما يعود تأسيسه للمنزل الاول الذي ذكره السيد شعبان الى مطلع القرن العشرين ليس الا.

ما زال الجدل قائماً حول معنى كلمة "الشوايا"، فمنهم من ينسبها الى أصل آرامي، انطلاقاً من الفعل "شْوا" الذي يفيد الاعتدال والانبساط، اشارة الى سهول الجزيرة التي سكنوها؛ ومنهم من يُرجعها الى أصول عربية، الى الفعل "شوى" بمعنى شيّ اللحم على النار، وهذه من عادة البدو في الافراح والضيافة. أما المعنى الشعبي الذي تتخذه في الجزيرة فهو العرب المسلمون سكان الريف حصراً، وليس كما ادعى السيد شعبان، فهي لا تُطلق ابداً على أكراد الريف ولا حتى على مسيحييه. أما قوله بأنها تُطلق على "الطوارنة" (النازحون من طور عبدين الواقعة في تركيا الحالية)، فهذا ما لم أسمعه طوال السنين التي أمضيتها في الحسكة، لكن يجب التذكير هنا أنها أُطلقت على ملّة اخرى من المسيحيين، وليس الطوارنة، وهذا من باب اللهو والمزاح فقط. فمجرد قولك: "شاوي"، تقصد مباشرة أي عربي مسلم ينتمي الى احدى العشائر العربية المنتشرة في سهول الجزيرة السورية.

"الجزيرة السورية"، تعبير جغرافي متداول، تجده في المنهاج الدراسي السوري، يشير الى المنطقة الممتدة بين نهر الفرات غرباً ونهر دجلة شرقاً، وليس كما قال السيد شعبان من أن مجمل أراضي محافظة الحسكة تقع بين نهر الخابور الذي استبدله هنا بالفرات. ومساحتها تبلغ أكثر من ضعفي مساحة لبنان.

أن يتجرأ وينسب غالبية المسيحيين، وخصوصاً السريان منهم الى اصول عربية، فهذه جريمة بحق التاريخ، لا بل يتذرّع بكلام سيادة المطران روهم الذي يصر هو الآخر على أصولنا التغلبية. ومن أين جاء بهذه الفتوى لا أعلم، ما أعلمه أني أوجّه رسالة ود ومحبة الى سيادة المطران روهم، وهو الذي يعود بأصوله الى الطوارنة الذين نعتهم السيد شعبان بكلمة "شوايا" خطأ. ألا ينسى اللغة السريانية التي يتكلمها كما تعلمها من والديه اللذين ورثاها أباً عن جدّ؟ مع العلم ان الطوارنة هم آخر من تعلم العربية في أنحاء الجزيرة فبينما تكلمها أهل "آزخ" (تقع في تركيا حالياً) قبل أكثر من ألف عام، تكلمها الطوارنة لمئات عدة من السنين خلت. ولا أعلم كيف ينسب نفسه وينسبنا معه الى أصول تغلبية على الرغم من وجود السريانية المحكية كأكبر دليل على نقض هذا الزعم، اللهم الا اذا قال بأن التغالبة تكلموا السريانية او تعلموها من السريان المحيطين بهم. فلعمري يكون العذر هنا أقبح من الذنب. ولست أذمّ بكلامي العرب او التغالبة لكن من باب التذكير فإن التغالبة تعرّضوا بسبب انتمائهم المسيحي الى الضيقات، وفيهم قال علي بن أبي طالب: "لئن بقيت لهم لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذريتهم فإنهم نقضوا العهد ونصّروا أولادهم" (أحكام أهل الذمة، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبدالله (القرن السابع الثامن الهجري)، الجزء 1، ص211). ولا مجال هنا لأذكر كيف اعتنق التغلبيون الاسلام عندما قُطعت قطعة من فخذ زعيم القبيلة، وشُويت ثم أُرغم على أكلها وكان ما كان. جلّ ما أعنيه ان العرب الذين كانوا مسيحيين كبني تغلب وغيرهم اعتنقوا الاسلام، ولم يبقَ لهم باق في المسيحية. لكني اليوم اكتشفت ان هناك الكثير من ينتمي اليهم فخراً!!

لا أعلم كيف قفزت النسبة في تحديد ابناء الكنيسة السريانية الارثوذكسية الى 80 في المئة، هذا يعني ان الكنائس الاخرى، من السريان الكاثوليك والآشوريين ذوي التقويم الغريغورياني وذوي التقويم اليولياني والكلدان، والارمن الارثوذكس والكاثوليك، والكنائس البروتستانتية، لا تبلغ الا 20 في المئة فقط. وكيف قام بهذا الاحصاء العجيب وهو يذكر أن الآشوريين وحدهم يبلغون أكثر من 20 ألف نسمة. مع العلم أن المسيحيين في تلك المنطقة لا يتجاوزون المئة ألف، وتبلغ نسبة السريان الارثوذكس فيهم لا أكثر من 50 في المئة، والآشوريين 20 في المئة، وبقية الكنائس 30 في المئة.

طبعاً نسي السيد شعبان او تناسى أن يمر على بقية الكنائس ليعلم مدى تجذرها في مدينة الحسكة، وما هو الدور الذي قامت به خلال نشأة هذه المدينة التي لا تزال فتية، فلم يذكر أن أولى المدارس افتتحت في هذه المدينة على يد الاب بطرس ميرزا (الكنيسة السريانية الكاثوليكية، توفي عام 1978) في مطلع العشرينات من القرن المنصرم، وهو اول الكهنة الذين وفدوا الى هذه المدينة وكان ينتمي الى الرهبنة السريانية الافرامية في ماردين، قدم الحسكة بعد تشتت رهبانيته وموتها، إثر مذابح السفر برلك. قامت هذه المدرسة الترابية الى جانب الكنيسة الاولى ايضاً والمصنوعة من اللبن. ويُذكر ان جميع المسيحيين، بمن فيهم الارثوذكس صلوا فيها قبل أن تستقل كل كنيسة على حدة، وتكون الكنيسة الثانية من نصيب الكلدان، بينما السريان الارثوذكس كانوا لا يزالون يصلون في أحد المنازل المتخذ لهذا الغرض. أما اول من فكّر بمسيحيي الجزيرة فكان بطريرك السريان الكاثوليك مار أغناطيوس أفرام الثاني رحماني (1898 – 1929) الذي ارسل القس بطرس المذكور وساهم في إنشاء الكنيسة والمدرسة الاوليين.

*****************

 

رداً على شعبان عبود

والأب شربل جورج صموئيل

اديب جبور، الحسكة ـ سوريا

"النهار" الخميس 16 كانون الأول 2004 

وانا اطالع عدد النهار المؤرخ 30/11/2004 فوجئت بأقوال عن لساني لم اقلها واقوال قلتها ولم تنشر فوجدت من الضروري ان تتذيل الاقوال المزمع نشرها بتوقيع اصحابها وبخط يدهم ضمانة لأمانة النشر كي لا يتقول الناشر عن لسان الناس ما لم يقولوه.

لقد كنت في محضر صاحب السيادة مار اوسطاثيوس متى روهم مطران الجزيرة والفرات للسريان الارثوذكس برفقة الصحافي عبود شعبان وانا مطلع على كل ما دار من حديث بينهما وما تحدثت بدوري اليه. واذكر انني اوردت مثلا عن الوحدة الوطنية والتآخي الاسلامي- المسيحي الذي تنفرد به بشكل مميز محافظة الحسكة والتي تظهر في الاعياد والمناسبات في الافراح والاتراح غير انني لم اعثر على هذا في المقال المذكور.

كما تحدثت عن ريادة العلاقات المسيحية في المحافظة في مجال الزراعة الميكانيكية مثل عائلة اصفر ونجار وعائلة معمارباشي وعائلة زرمبا وعائلة مقدسي سعيد نعوم وعائلة حبيب مريمو وغيرها من العائلات التي استصلحت الاراضي البور الشاسعة، وعن اسبقية قرية تل هرمز الآشورية في مجال التنظيم الزراعي التعاوني وعن النشاط الرياضي وانشاء الاندية الرياضية مبكرا، وعن افتتاح المدارس جنبا الى جنب بناء الكنائس، وعن استخدام الكهرباء قبل ان تقوم اي شركة حكومية بذلك.

كل هذا لم يرد في مقالة بل ورد عن لساني ما لم اقله بالشكل الذي قاله الاستاذ شعبان حول جريمة القتل التي وقعت اخيرا كما يحصل في كثير من بلدان العالم والتي يحقق فيها القضاء، وهي لم تؤد ولن تؤدي الى اية هجرة خارجية او داخلية او تعكر جو التآخي الاسلامي المسيحي فكيف سمح الاستاذ بنشر ما لم اطلب نشره او الحديث عنه؟

والى جانب ذلك كنت شاهدا على حديث صاحب النيافة وكان حاضرا معي الاستاذ المحامي انطون قس جبرائيل عندما تحدث نيافته عن عشيرة بني تغلب فعقبت على قوله بأن التغالبة المسيحيين قدموا من ماردين ونيافته يريد القول ان التغالبة يشكلون جزءا من النسيج الذي تتكون منه الكنيسة السريانية كعشيرة طي وربيعة وقيس وكلب وتنوخ وبكر وعقيل وغيرها من العشائر التي تدخل ضمن هذا النسيج، ومن الملاحظ ان آزخ المسماة بيت زبداي يتكلم اهلها العربية في الوقت الذي تتكلم فيه القرى المحيطة بها كقرية مدو اللغة السريانية.

ان عدم المصداقية في ما نشر استثار الاب شربل صموئيل الذي تطلع بدوره للرد على المقال المؤرخ في 7/12/2004 وكأن ما جاء على لسان صاحب النيافة قد قال به نيافته فلم يكلف نفسه عناء البحث والاستفسار من نيافته رغم قرب المرجع وسهولة الرجوع اليه فنصّب من نفسه ناقدا بارعا ومصححا ومؤرخا وقد جاء في مقاله تحت عنوان يدعو الى العجب العجاب اعني العنوان: "نحن مسيحيي الجزيرة لسنا عربا خلافا لما قاله المطران روهم". اننا نفخر بالعنصر العربي الذي يدخل في كنيستنا السريانية ولدينا اعلام بارزة عربية في كنيستنا نعتز بها ونفخر، فلماذا نتنصل من العرب والعروبة وفي هذا فخر لنا ولا نعاب عليه. وعلاقتنا بالعروبة كسريان تمتد الى ابعد من تاريخ ظهور الاسلام بل حتى قبل ظهور المسيحية. وقد ورد في تاريخنا السرياني ان مار آحو دامه المتوفى عام 575 كان اسقفا لأبرشية باعربايا المترجمة "ديار العرب" والواقعة بين نصيبين وسنجار.

ألا صدق صاحب النيافة في ما قال وان كره المشككون.

اما بشأن الأرقام والنسب المئوية التي اوردها الاستاذ شعبان حول تعداد الطوائف المسيحية والتي استنكرها الاب شربل صموئيل واورد نسبا واعدادا غيرها فنسأله من اين اتى بهذه الاعداد وهذه النسب؟ وليعلم الاب الفاضل شربل صموئيل اننا لم نضع حواجز في طريق الاستاذ شعبان ليصل الى بقية الطوائف ويجري معها اللقاء الذي يريد.

ونتساءل بدورنا ألم يقرأ الاب الفاضل ما جاء في مقال الاستاذ شعبان حول (احمد. ش) الذي يدعي بأن السريان هم اكثر حساسية وتشنجا وتخلفا منا في مثل هذه الامور، فأين غيرته الوقادة وحرصه على سمعة السريان التي يدّعيها؟

وكيف علم الاستاذ شعبان ان السريان والآشوريين والعرب المسيحيين ممن انضموا الى حزب البعث قد انضموا اليه طمعا في الحصول على مغانم وامتيازات من العاصمة؟ فهل شق صدورهم واطلع على دواخلها ام انه يرسل الكلام على عواهنه؟

الصحافة مهمة مقدسة نبيلة نربأ بها ان تهبط الى مثل هذه الدركات ونؤكد ان وحدتنا الوطنية فوق كل الشبهات وستبقى الصخرة التي تتحطم عليها كل المؤامرات.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط