ليس حب أعظم من هذا!
جوزيف بشارة / Apr 17, 2006

إحتفل المسيحيون بالأمس في كافة أنحاء المعمورة، باستثناء الأرثوذكس الشرقيين، بعيد الفصح. يحمل العيد ـ حسب العقيدة المسيحية  ـ معان عميقة عن نظرية التضحية والكفارة بالدم التي تعد من زاوية أو أخرى ليست بغريبة عن معظم الأديان. المغزى الأساسي وراء فكرة التضحية هو طاعة الله والتقرب منه، والتحرر من العبودية والتكفير عن الذنوب والخطايا. ففي اليهودية كانت الذبائح التي يتقدم بها الكهنة نيابة عن الشعب رمزاً للتكفير عن الخطيئة. وحين جاءت المسيحية آمن أتباعها بالفداء والخلاص بدم السيد المسيح. أما في الإسلام فيتم ذبح الأضحية في عيد الأضحى تيمناً بالنبي ابراهيم الذي كاد أن يذبح ابنه طاعة لأمر الله قبل أن يتم افتداءه بكبش. لا يقتصر وجود نظرية وممارسة التضحية بالدم على الأديان وكتبها المقدسة فقط، وإنما تمتلئ كتب التاريخ بقصص وروايات عن تضحيات ثمينة قدمها الأجداد والأباء في الماضي دفاعاً عن الوطن والحريات، كما لا تزال عناوين الأنباء تحفل بتضحيات يقدمها الأبناء والأحفاد في الوقت الراهن في سبيل حقوق الإنسان والمساواة.

 

يرتبط الفرد غالباً بعلاقة قوية وحميمة بالقضية التي يضحي من أجلها. قد تكون القضية وطناً، وقد تكون شعباً أو عائلة أو أصدقاء، وربما تكون عقيدة دينية أو أيديولوجيا أو نظرية، كما قد تكون مبدأ أخلاقياً أو سياسياً أو اجتماعياً. طوال قرون عديدة كان الوطن هو أهم القضايا التي يدافع عنها المرء بدمه وحياته، فلكم من حروب ومنازعات وصراعات عديدة خاضتها الشعوب للدفاع عن أوطانها، ضحى خلالها مئات الألاف من البشر بحياتهم فداءً لأوطانهم ووفاء لعهود قطعوها على أنفسهم بالدفاع عن كرامة وعزة بلدانهم ومجتمعاتهم وعائلاتهم وأسرهم وعقائدهم. بعد انتهاء ـ أو يكاد أن ينتهي ـ عصر الإستعمار والإحتلال من العالم، وبعد انتهاء عصر التضحيات من أجل الإستقلال، إتجهت مفاهيم التضحية نحو العطاء في سبيل الديمقراطية والحريات العامة والمساواة وحقوق الإنسان.

 

لم يكن سقوط ضحايا خلال الدفاع عن قضاياهم ليعني بحال من الأحوال هزيمتهم أوخسارتهم لتلك القضايا، ولكن دماءهم دائماً ما كانت خير دعم لمساعي شعوبهم في الحصول على حقوقهم عبر تلبية مطالبهم. لم تُسكِتْ دماء الشهداء الشعوب المقهورة يوماً عن الإستمرار في المطالبة بحقوقهم، وإنما كانت دوماً قوى دفع جبارة للنضال في طريق الألام الوعر. التاريخ يعلمنا أن الشعوب أبداً لا تركع في مواجهة الظلم والإستبداد والقهر، فكافة النظم الدكتاتورية والشمولية إلى زوال لا محالة. لقد ناضلت القوى الوطنية في الدول الحرة من أجل مبادئ الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، فكانت لها وإن طال النضال. فكانت النتيجة أن بقي ضحايا الحرية أحياء في ذاكرة ووجدان الشعوب، بينما انزوت نظم القمع في مزبلة التاريخ. لم تكن تلك المجتمعات لتنال حرياتها وتحمي حقوقها ما لم تكن دماء أبنائها قد سُفِكَتْ في طريق الحرية. فالدماء تطهر من الفساد وتجرر الأسير وتنتصر للضعيف والمنكسر.

**************

التاريخ يعيد نفسه هذه الأيام في منطقتنا حيث ترزح الغالبية العظمى من شعوبنا تحت نظم حكم شمولية ودكتاتورية لا تعترف بالحريات العامة ولا تعير مبادئ المساواة وحقوق الأنسان أدنى اهتمام. العديد من المناضلين الوطنيين يبذلون الغالي والنفيس دفاعاً عن هذه المبادئ. تتراوح درجات التضحية في البلدان العربية بين الاحتجاز والتصفية الجسدية ومروراً بالإختطاف والسجن والتعذيب والفصل من العمل والنفي وغيرها. تتمثل خطايا الضحايا الأبرياء من المناضلين ـ من وجهة نظر النظم الحاكمة ـ في المطالبة بالحريات العامة وتداول السلطة. لكن الحكومات الدكتاتورية التي عادة ما تتقلص أو تنعدم لديها المقدرة على احتمال النقد غالباً ما ترى أن التخلص من هؤلاء المناضلين هو الحل الأمثل لقمع المعارضين وذلك عبر الحجز التعسفي وتلفيق الإتهامات الباطلة لهم والإغتيال. لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد السجناء السياسيين في العالم العربي، ولكنهم يعدون بالألاف. لا يزال الإغتيال أحد الأساليب التي تستحدمها النظم الدكتاتورية للتخلص من معارضيها الذين يشكلون خطراً على استمرارها داخل وربما خارج حدودها. تبرز هنا - على سبيل المثال لا الحصر - سلسلة الإغتيالات التي شهدتها لبنان، واتهم النظام السوري بالضلوع فيها، التي طالت كل من الشهداء رفيق الحريري، سمير قصير، جبران تويني وغيرهم من الذين نادوا باستقلال وحرية لبنان وعارضوا الوجود والنفوذ السوري به.

 

ما من شك في أن هؤلاء وأولئك المناضلين قد افتدوا ويفتدون مجتمعاتهم وبلادهم بأرواحهم وكرامتهم ودمائهم، وقدموا ويقدمون أنفسهم – طواعية - قرابين على مذابح النضال ضد الدكتاتورية لتحرير شعوبهم ونصرة المبادئ التي يدافعون عنها. وما من شك في أن هذه التضحيات ستسهم يوماً في تحرير الشعوب العربية من قيودها حتى وإن طال الزمن. لن تنجح أبداً مساعي نظم الحكم الشمولية في إخفاء ما ترتكبه من انتهاكات بحق مواطنيها ومعارضيها حيث لم يعد للقيود الزمنية أو المكانية أهمية تذكر في عالم اليوم في ظل تكنولوجيا وسائل الإتصال الحديثة من إنترنت وغيرها، فالأخبار أصبحت تنتشر كالنار في الهشيم عبر الكون. كما سقطت أيضاً الحدود الجغرافية؛ فشهيد يسقط في بيروت يساهم في تحرير أسير للحكم التعسفي في دمشق، وضحية تذهب في دارفور تكون وراء حصول مواطن مقهور في بني غازي على حقوقه. إذا كانت النظم الدكتاتورية ترفض الإستماع لنصائح المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان من أجل تحسين سجلات حقوق الإنسان بها تحت شعارات رنانة لا تنطلي إلا على السذج والموالين فقط كالإستقلال والكرامة الوطنية، لكنها حتماً ستذعن لرغبات الشعوب يوماً، وأبداً لن تستطيع إسكات الأصوات المنادية بالحقوق. حين سقط الحكم الدكتاتوري في الإتحاد السوفيتي الأسبق قبل نحو ستة عشر عاماً، لحق به كل نظرائه من نظم الكتلة الشرقية في غضون فترة زمنية قصيرة، ولم يتبق من حكم دكتاتوري في أوروبا سوى نظام روسيا البيضاء. أيضاً سيعيد التاريخ نفسه في العالم العربي حين تعرف دولة منه طعم الحرية، عندها لن يمنعها أحد من الإنتشار في كافة أنحاء المنطقة.

**************

ليست الدكتاتورية هي المجال الأوحد لتضحيات الشعوب العربية، ولكن هناك التطرف البشع الذي لايعرف الرحمة، والذي سقط بسببه عشرات الألاف من الأبرياء في دول كالعراق والجزائر ومصر وغيرهم. إذا كان ضحايا الحريات السياسية ـ في معظم الحالات ـ ممن وضعوا حياتهم رهن مبادئهم، فإن ضحايا الإرهاب ـ في معظم العمليات ـ هم عينات عشوائية من المواطنين الذين يفقدون حياتهم جراء تفجيرات أو عمليات إنتحارية تهدف بالمقام الأول إلى الترويع وزعزعة الإستقرار. ولكن لا ينبغي أن نغفل أن هناك أيضاً أهدافاً محددة للإرهاب وهي تتمثل في الكتاب والمفكرين المستنيرين ممن يقاومون الفكر المتطرف بالإضافة إلى الأقليات الدينية كالشيعة والمسيحيين والبهائيين.

 

الغريب أن الإرهابيين يدعون أن منفذي العمليات الإرهابية هم شهداء يضحون بدمائهم وحياتهم في سبيل الله. لا يمكن بصورة من الصور أن نطلق على الإرهاب لقب تضحية أو أن ننعت الإرهابيين بصفة ضحايا، فالتضحية سامية في معناها، هادفة في مغزاها، بريئة في وسائلها وبانية في مبتغاها. إن أقل ما يمكن أن يوصف به هؤلاء الإرهابيين الذين يروعون المجتمعات الآمنة بغرض فرض أفكارهم المتشددة الغريبة بالقوة هو أنهم مجرمون وسفاحون وقتلة. يظن الإرهابيون أنهم يقدمون بأفعالهم هذه خدمة لله عن طريق إصلاح المجتمعات والتخلص ممن لا يتفقون رؤاهم، ولكن الحقيقة أن الله منهم براء، فتضحية الإرهابيين هي نوعية من التضحية السلبية المدمرة كالتي يمارسها اللصوص وقطاع الطرق الذين قد يفقدون حياتهم ومستقبلهم لقاء بعض المال.

 

يسقط ضحايا الإرهاب الأعمى بالعشرات يومياً في العراق، فكانت النتيجة أنه بدلاً من أن يحتفل الشعب العراقي بحريته بعد سقوط الطاغية صدام حسين، تفرغ العراقيون للملمة أشلاء ذويهم من الشوارع، قضوا أوقاتهم في تلقي العزاء، وتحولت حياتهم إلى رعب دفع البعض إلى الترحم على أيام الطاغية. ولكن إلى متى تستمر هذه الأعمال الإرهابية؟ تعطيني دماء الشهداء العراقيين ثقة في مستقبل أفضل، فلن يضيع دم الضحايا هدراً. يحدوني الأمل في أن العراقيين سيتحدون وسيتماسكون ضد الإرهاب الحقير، ولن يدعوا فرصة الحرية تمر من أمامهم دون أن يحصلوا عليها كاملة. باعتقادي أن دم الشهداء سيطهر العراق من خطايا صدام وإجرام الزرقاوي. نعم تملأني الثقة في أن العراقيين الشجعان لن يكفوا عن تحدي الخوف والرعب، بل وسيقضون على التطرف وسيحظون بالحرية الكاملة بعد خروج القوات الأجنبية.

 

إن ضحايا الإرهاب في العراق هم شهداء التطرف المتزايد في كل بقعة من العالم العربي. لا ينبغي أن نأخذ الأوضاع التي يعيشها العراقيون بمعزل عن الظروف السائدة في معظم دول المنطقة. فالتطرف والإرهاب يزدادان انتشاراً يوماً بعد يوم ويكادان يهددان مستقبل الجميع. لقد فقد عشرات الألاف من الجزائريين والمصريين حياتهم، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ضحية للإرهاب وفداءاً لملايين أخرين من الجزائريين والمصريين. دماء هؤلاء الشهداء هي قاطرة الخلاص من الإرهاب، وهي التي ستحررنا جميعا من التطرف. لقد لقي أمس الأول أحد المواطنين الأقباط المصريين يدعى نصحي عطا الله جرس حتفه نتيجة اعتداء بالسلاح الأبيض أثناء الصلاة بإحدى الكنائس بالإسكندرية. لا يساورني الشك للحظة في أن دم هذا الشهيد سيفتح أفاقاً جديدة أمام الأقباط في تحديهم السلمي للإرهاب والظلم الذي يتعرضون له.

**************

هؤلاء الشهداء وأولئك الضحايا هم سبيلنا نحو مجتمع متسامح لا يعرف التفرقة بين السني أو الشيعي أو الماروني أو السرياني أو الأرثوذكسي. قيامة مجتمعاتنا من سباتها واستيقاظها من غفوتها وتحررها من قيودها ـ إن عاجلاً أو آجلاً ـ سيكون بلا شك بفعل قوة الدفع الهائلة التي ينتجها الدم الطاهر الذي يسفكه شهداؤنا. هؤلاء الشهداء سيكونون قوة الخلاص من خطايا المرتزقة والمتطرفين ممن يحاولون زعزعة استقرار أوطاننا. ولكن ستبقى أوطاننا حرة متحدة تعيش فيها كافة الطوائف المعتدلة جنباً إلى جنب في أخاء وسلام ومحبة هذه هي قوة الفداء بالدم التي تترسخ في العقل والقلب والوجدان. تحية لأرواح كل شهداء الحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان، وتحية لأرواح كل من افتدى شعبه بدمه وحياته، وتحية لأرواح كل من دفع الثمن الأغلى لتحرير مجتمعة من أغلال العبودية للدكتاتورية والتطرف. سيبقى هؤلاء الشهداء دوماً وأبداً في في قلوب ووجدان شعوبهم لأنه ـ أردد مقولة السيد المسيح الذي احتفل به المسيحيون بالأمس ـ "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يو 15 : 13) وأضيف  لأجل حرية وحقوق شعبه. وكل عام وبلادنا وشعوبنا بخير وحب وسلام.

=========================  

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط