بسام درويش / Apr 05, 2003

إغاثة المستجير، شميلة من الشمائل الكثيرة التي يتباهى بها العرب؛ وما أكثر ما يتباهى به العرب من شمائل! لكن، سواء صدق العرب أو لم يصدقوا في ادّعائهم بأنهم يتميزون عن غيرهم من شعوب العالم بشدّة تمسكهم بهذه الشميلة، فإنه لأمرٌ أكيد بأنهم في زمن الحروب، لا يعرفون معنى لهذه الشميلة.

في زمن الحروب، لا تصبح هذه الشميلة أمراً طوعياً أو كرماً شخصياً، بل قانوناً دولياً يتوجب على كل الأطراف المتحاربة احترامه، وعُرفاً أخلاقياً، لا يصبح تجاهلُه عاراً على الفرد فقط، بل على الأمة بأسرها.

****

حين يعلن الجندي في المعركة استسلامه للعدو فذلك يعني بأنه يستغيث به ويطلب الإبقاء على حياته مقابل إلقاء سلاحه. ومنذ تلك اللحظة التي يُعطى فيها الأمان، تصبح سلامته مسؤوليةً أخلاقيةً وقانونيةً في عنق الطرف الآخر.

الخداع في الحروب جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية العسكرية للجيوش، لكن، حين يعلنُ جنديٌّ أو فريقٌ من الجيش استسلامه، سواء كان برفع علمٍ أبيضَ أو بأيةِ طريقةٍ أخرى، ثم وبمجرد حصوله على الأمان، يباغت عدوّه فيقتله، أو يحاول قتله، فالأمر آنذاك لا يعود يُسمّى خدعةً حربية، إنما خدعة دنيئة تنحدرُ بالإنسان إلى مرتبةٍ أقل من مرتبة أحقر الحيوانات، ناهيك عن كونها جريمة ذات أبعاد خطيرة. هذه الجريمة لا تكون فقط بحق الإنسان الذي تناسى العداء والأحقاد، وأعطى الأمان لإنسان آخر قرر رمي سلاحه مقابل وعدٍ بالإبقاء على حياته، بل جريمة بحق كل المثل الإنسانية التي تنظم العلاقات بين الشعوب، حتى في أحلك أيامها، ونعني بذلك زمن الحروب.

حق المحارب بالاستسلام للعدو مقابل الإبقاء على حياته، وواجب العدوّ بالاستجابة لهذه الاستغاثة، تقليدٌ تعارفت عليه أمم العالم على مدى التاريخ المعروف، وأية خدعة دنيئة يمارسها جيشُ أمةٍ من الأمم، قد ترتدّ وبالاً على الجيش المخادع وأمته.

قبول استسلام العدو وإعطائه الأمان ومن ثم تقديم العون له، هو دون أدنى شكٍّ شميلةٌ أعظمُ  من إغاثة مستجيرٍ في الأحوال الطبيعية. فرغم العداء المستحكم بين طرفين متحاربين، ورغم الدماء التي أريقت في صفوفهما، أن يقومَ أحد هؤلاء الطرفين بإغاثة الطرف الآخر، بمجرد إعلانه عن رغبته بالاستسلام، هو بالضبط ما يميز الإنسان عن الحيوان.

وعلى النقيض من ذلك، أن يخون المستسلمُ الأمان الذي أعطي له من عدوه، فيطعنه من خلفه، فإنه لعمري، أحقر الطبائع الحيوانية. وما قام به أفراد من الجيش العراقي مؤخراً بعد أن مُنِحوا الآمان من قِبَلِ قوات الائتلاف، ليس إلا دليلاً على المستوى البهيمي الذي انحدر إليه النظام المقيت في العراق.

ما قام ويقوم به جنود الطاغية العراقي لربما يعكس أخلاقية النظام، ولكن لا مفرّ من القول بأن ما يتمتع به هذا النظام من انحطاط أخلاقي، هو صورة لكل الأنظمة الدكتاتورية العربية. من هذه الحوادث البشعة التي تناقلتها الأخبار، خبر قيام عدد من الجنود العراقيين بالتلويح بالرايات البيضاء طالبين الرحمة من الجنود الغربيين، وما أن أعطاهم الغربيون الأمان حتى انهال عليهم أخوان لهؤلاء الخونة كانوا يختبئون ورائهم، فقتلوا منهم من قتلوا، وأسروا من أسروا؛ ولن يكون غريباً إن تبين لنا فيما بعد ـ وقد انحدروا إلى مستوى أحقر الحيوانات ـ بأنهم قد أكلوا أيضاً لحومهم.  

حادثة أخرى جرت حين توقف ضابط عراقي بسيارته ونزل منها رافعاً يديه مستسلماً للجنود الأمريكيين، وما أن أعطاه الأمريكيون الأمان وسمحوا له بالاقتراب حتى فجّر نفسه وقتل معه أربعة من الجنود الذين قبلوا الحفاظ على حياته. والأمس بالذات، ذهب ضحية الغدر ثلاثة جنود أمريكيين على أثر انفجار سيارة مفخخة، نزلت منها امرأة حبلى أو تظاهرت بأنها حبلى، وأشارت بيديها تستنجد بهم.

أمثلة كثيرة أخرى أثبت فيها النظام العراقي إفلاسه الأخلاقي والعسكري والسياسي والإداري، رغم أنه لا حاجة بالعالم إلى دليل ليتأكّد من مبلغ هذا الإفلاس. من هذه الأمثلة، إعطاء الأوامر للجنود بخلع ملابسهم العسكرية ومواجهة قوات التآلف بألبسة مدنية، أو استعمال المدارس والمساجد والمستشفيات والمنازل كمتاريس عسكرية، وكل ذلك لغاية استجداء عطف العالم بالادّعاء بأن الغربيين يقتلون المدنيين العراقيين. وبعبارة أخرى، يضحّي النظام التعسفي في العراق بأبناء شعبه لأجل دعاية سياسية لم يعد هناك إلا أيام معدودة قبل أن يفتضح أمرها.

****

تُرى ماذا يفعل العراقيون لو قام جنود غربيون بالاستسلام لإحدى فرقهم ثم قاموا بعد ذلك بالغدر بهم؟ الإجابة على هذا التساؤل لا تتطلب تفكيراً عميقاً. إنهم سينتقمون من كل أسير يقع بين أيديهم بتعذيبه وقتله على الفور، علماً بأنهم يفعلون ذلك على أي حال من الأحوال. فهم يعذبون الأسرى ويذلونهم بعرضهم على شاشات التلفزيون، ويقتلون منهم من يُظهِرُ إباءه، ويدفنون بعضهم تحت رمال الصحراء، مخالفين كل الأعراف الإنسانية والأنظمة الدولية التي لم يُظهروا لها في يوم من الأيام أي احترام.

ومن ناحية أخرى، تُرى ماذا كان سيفعل الأمريكيون بذلك المجرم الحقير الذي فجّر نفسه وقتل أربعة منهم لو قُدّر له أن يبقى على قيد الحياة؟ الإجابة على هذا التساؤل بسيطة جداً ولا جدال فيها. كانوا سينقلونه بسرعة على إحدى طائراتهم المروحية إلى أقرب مستشفى ميداني، حيث يعالجونه ثم يحيلونه إلى المحكمة بعد أن يعينوا له محامياً يدافع عنه. لن يفعلوا به ما فعله ويفعله العراقيون بمن يقع بين أيديهم من أسرى الحرب. لا، ولن يفعلوا بالتأكيد ما فعله "النبي" محمدٌ بالذين قتلوا راعيه بعد أن أغاثهم وأطعمهم، إذ أمر بأن تُسْمَرَ أعينُهم (أي أن تُفقأ بمسامير محماة) وتُقطع أرجلهم وأيديهم ويُلقى بهم في حرّة الصحراء حيث يطلبون الماءَ فلا يُعطون، والرحمةَ فلا يُرحمون. (راجع صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم)

****

هذه الحرب ليست بين قوات غربية ونظام تعسفي مجرم. إنها حرب بين النور والظلام. حرب بين الحضارة والهمجية. وحرب لإنقاذ الإنسان العربي من نفسه وليس من حكامه فقط.

إن العالم الحرّ لواقفٌ اليومَ، مشرعاً ذراعيه، ينتظرُ كأب ملهوف عودة ابنه الإنسان العربي من المنفى.

العالم بحاجة إلى هذا الابن الضائع. بحاجة إلى عقله وزنديه وقلمه وكل طاقاته. لكن، ولكي يكون بمقدور هذا الإنسان أن يشارك ويتعايش مع أخوته في الإنسانية، لا بدّ له من أن يخلع ثيابه العتيقة وأن يغسل قلبه من كل بذور الحقد التي زرعها فيه حكامه واستمروا على تغذيتها على مدى أربعة عشر قرناً من الزمن.

هذه الحرب التي يضحّي فيها جنود قوات التحالف بأرواحهم من أجل أخوتهم في الإنسانية، هي بحد ذاتها أسمى درجات "إغاثة الملهوف والمستجير"، إذ ليس أعظم وأسمى من أن يقدّم إنسانٌ نفسَه فداءً عن أخيه الإنسان.

العالم ينتظر بفارغ الصبر عودة الابن الضال إلى بيته الكبير وعائلته الكبيرة. وسيكون هذا الابن الضال، المنارة التي تهدي كل أخوته الضالين في ذلك البحر المظلم إلى شاطئ السلامة!

==================

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط