هشام محمد / Feb 10, 2005

في المرة السابقة، تناولت الوجه البشري لأقوال وأفعال محمد والتي يصر اتباعه على إضفاء القداسة عليها، وتحويلها إلى نظريات علمية من خلال مطابقة أحاديثه بوقائع تاريخية معينة أو بظواهر فلكية وطبية محددة. وبغض الطرف عن ما إذا كان النبي قد قالها بلسانه أم ألحقت بتراثه النبوي المتضخم فيما بعد، فإن هذا الاحتفاء بتلك الأحاديث يعكس رغبة لدى محبيه على تأكيد عظمته بجعله قادراً على قراءة كف المستقبل وفك طلاسم بعض أسرار الطبيعة، على نحو يعوض ـ ولو جزئياً ـ غياب المعجزات والخوارق المادية كالتي جاء بها "الأنبياء" السابقون لمحمد. شخصياً، لا أعرف ما إذا كان الإصرار على نثر تلك الإشارات الإلهية في سيرة محمد من قبل اتباعه ينطوي على تعبير ضمني بعدم الاقتناع الكافي بضخامة (أم المعجزات) القرآن الكريم الذي حمل النبي "شرف" تبليغه للناس أم لا.
بعيداً عن المحاولات العقيمة لصبغ لون القداسة على أحاديث النبي، والإصرار على تحويل البعض منها إلى نظريات علمية، فإن هناك في المقابل قصص غريبة وروايات عجيبة تتصادم مع المعقول والمألوف، أضافها المتأخرون للتشديد على
نبوءة محمد. ولعل الملاحظ في كثير من تلك الروايات أن الجزء الأكبر قد تم تأليفه ليغطي مرحلة ما قبل النبوة، أي الأربعة عقود الأولى من حياته، ربما بقصد سد الفراغات خاصة وأن محمداً لم يكن ذا شأن يذكر قبل الإعلان عن النبوءة. فهو لم يعرف بثرائه الواسع بين قريش، ولا بكرمه الحاتمي بين العرب، ولا ببأسه في ميادين القتال والوغى، ولا ببراعته الشعرية كزهير بن سلمى وعنترة. وكما أشرت في المقالة السابقة إلى بعض الأحاديث التي يصر مروجوها على دلالاتها العلمية الهائلة، فإنني سأورد بعض من تلك القصص الغرائبية وجميعها مستقاة من كتاب الشخصية المحمدية (أو اللغز المقدس) للشاعر والأديب العراقي معروف الرصافي، الذي اعتمد بدوره في تحليله لشخصية "النبي" على جملة من المصادر خاصة السيرة الحلبية وسيرة ابن هشام.

آخر الحمير المحترمين
جاء في السيرة الحلبية أن النبي لما قهر اليهود واستولى على خيبر التقى بحمار أسود فقال له النبي: ما اسمك؟ قال الحمار(!): يزيد بن شهاب (لماذا يزيد؟ أهو نكاية بيزيد بن معاوية مثلاً؟)... يكمل الحمار: اخرج الله من نسل جدي ستين حماراً كلهم لا يركبهم إلا نبي، وقد كنت أتوقعك لتركبني، ولم يبق من نسل جدي غيري، ولم يبق من الأنبياء غيرك، وقد كنت لرجل يهودي فكنت أتعثر به عمداً، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري. فقال النبي: فأنت يعفور! المهم.. أخذ النبي يعفور معه إلى المدينة، فكان النبي يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب ليقرعه برأسه، فإذا خرج صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله. وبما أن يعفور حمار من طراز نبوي مميز، إذ لا يركبه إلا الأنبياء فقد ألقى المسكين بنفسه في بئر ماء حزناّ ووجداّ على النبي محمد بعد وفاته. الغريب أن صاحب الخيال الجامح الذي كتب هذه التراجيديا لم يذكر ما إذا كانت البئر جافة أم مليئة بالماء، وما إذا كانت الناس قد بقيت تشرب منها أم لا باعتبار أنها ستكون بئر مباركة وستتحول بمرور الزمن إلى مزار ديني ومشفى طبيعي.

عبد الله وآمنة
لم يرض الرواة أن يبقى والدا محمد في الظل، وألا يكون لهما من (مولد) المعجزات بعض (الحمص). فهما، أي عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب ليسا بأبوين عاديين. ثم أن ولادة النبي محمد آخر وأفضل الأنبياء لا يمكن أن تمر هكذا بلا (اكشن)، فهو ليس بأقل من إبراهيم وموسى وعيسى الذين صاحبت ولادتهم ظروف استثنائية غير اعتيادية بالمرة. ومن تلك الطرائف أو المبالغات التي اختلقها الرواة ما ذكر بشأن بقعة الضوء التي كانت تشع من جبين عبد الله بن عبد المطلب. تروي الحكاية أنه بينما كان عبد الله مع جد النبي عبد المطلب سائرين لخطبة آمنة بنت وهب، أوقفت امرأة واسمها أم قتَال ابنة نوفل بن أسد، وهي أخت ورقة بن نوفل، عبد الله وقالت له: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ غير أن عبد الله لم يقبل بالعرض المغري ولم يسل لعابه له. وبعد زواجه بآمنة انطفأ النور الإلهي فجأة في جبينه ليطل من جبين زوجته آمنة. بعد حين، التقى عبد الله بنفس تلك المرأة فسألها متعجباً: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك حاجة! (الكامل في التاريخ، ابن الأثير: ص، 191). كما وردت نفس القصة ولكن مع كاهنة متهودة يقال لها أم خثعم، عرضت عليه مواقعتها مقابل مائة من الإبل، إلا أنه أبى إلا أن يتزوج بآمنة. حتى إذا ابتلعنا وعلى مضض هذه القصة، فسؤالي هنا: لماذا فارق النور جبين الأب ليحط على جبين الأم؟ أليس احتفاظ الزوجين بالنور قد يسهم بدور أكبر في تدعيم البراهين والقرائن النبوية؟ ثم أليس النبي محمد أحق بوراثة هذا النور السماوي بعد وفاة أبويه؟ ثم ألا يعتقد لو أن النبي محمد احتفظ بهذا النور لربما سهل عليه اجتذاب المؤمنين بجهد أقل وفي وقت أقصر؟
أما ما يتعلق بالولادة (السينمائية) للنبي محمد، فيذكر الرواة أن آمنة عندما جاءها المخاض رأت نسوة كالنخل طولاً، يقتربن منها ليسقوها شربة ماء أنصع من بياض اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من الشهد، ثم مسحت إحداهن على بطن آمنة قائلة: باسم الله اخرج بإذن الله، ثم قلن لها: نحن آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وهؤلاء البقية من الحور العين! هذه الحكاية هي من جملة خرافات سمعتها أكثر من مرة أيام الطفولة وعلى مقاعد الدراسة. غير أني لا أعرف لماذا جاء هؤلاء النسوة على هذا النحو من الطول الفارع والمهيب، وهو الأمر الذي قد يدخل الرعب لقلب آمنة بدلاً من أن يخفف عنها الآم الوضع! كما أنه لا توجد أي معلومة بشأن ما إذا كانت القوابل اللاتي كن يولدن آمنة قد شاهدوا هؤلاء القادمين من السماء أو سمعوا بشيء مما قالوه أم لا!

ألم نشرح لك صدرك
حصر معروف الرصافي في كتابه الموسوم "الشخصية المحمدية" خمس عمليات إلهية قام بها نفر من الملائكة لشق صدر النبي محمد لاستئصال ما علق بفؤاده من الغل والحسد. فمن ضمن تلك الحكايات التي رواها الرصافي ما جاء في سيرة ابن هشام وملخصها كما يلي: إن محمداً بينما كان في الثالثة من عمره مع ابن مرضعته حليمة السعدية في بهم لهم خلف بيوتهم، إذ اقبل ابن مرضعته مفزوعاً ينادي أمه وأبيه ليلحقا بمحمد. قالا لهما أن ذاك الصبي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه ثم شقا بطنه، وجعلا يسوطانه. فلما خرج أبويه وجدا محمد قائماً منتقعاً وجهه، فسألاه عما لحق به. فقال لهما، جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا شيئاً لا أدري ما هو. إجمالاً، تدور كل الحكايات الأخرى والتي تمت على مراحل زمنية متباعدة حول نفس الفكرة الجوهرية مع تفاوت واضح على مستوى التفاصيل الصغيرة مثل عدد الملائكة الذين قاموا بالجراحة، وماهية الشيء الذي انتزع من صدره، وطريقة إحداث الفتحة وإقفال الجرح. تعدد وتكرار تلك العمليات الجراحية جعلت الرصافي يتساءل عن الحكمة من وراء ذلك، إذ أن عملية واحدة يفترض أن تكون كافية لانتزاع أي مؤثرات شيطانية ولإقفال قلب النبي بالضبة والمفتاح أمام كل محاولات إبليس اللعين لإغوائه. لم يكتف الرصافي باستخدام أدوات النقد النصي للكشف عن جملة من التناقضات التي تعتري تلك الحكايات، وهي بالمناسبة أراها كافية لتعزيز الشك في تاريخية عمليات شق الصدر. لكنه ـ أي الرصافي ـ اعتمد المدخل السيكولوجي لفهم وتفسير قضية شق الصدر ووضعها في إطارها المنطقي البعيد عن الأوهام والخرافات من خلال الإحالة إلى عدد من الحالات العصبية التي كانت تصيب النبي محمد قبل وبعد النبوة. فمن ضمن الأمثلة على ذلك:
 جاء في السيرة الحلبية وغيرها من كتب السير أن نفراً من نصارى الحبشة رأوه مع مرضعته حليمة السعدية فسألوها عن الحمرة في عيبنه وما إذا كان يشتكي من مرض ما. فأجابتهم بأن هذه الحمرة لا تفارقه أبدا. وبالفعل فقد بقيت حمرة عيني النبي طيلة حياته، وكانت تشتد أكثر إذا غضب أو خطب في الناس. ويعزو الرصافي هذه الحالة إلى ارتباطها بجهازه العصبي، وأن استمرارها كل حياته ينفي أنها كانت عرض من أعراض الرمد كما يقال.
 وجاء في السيرة الحلبية أيضاً نقلاً عن ابن إسحاق أن
محمداً كان يرقى من العين عندما كان في مكة وقبل نزول القرآن عليه، أما عندما نزل القرآن أصابه نحو ما يصيبه من قبل. ويعلق صاحب السيرة الحلبية على ذلك بقوله: وهذا يدل على أنه كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة وتغميض عينيه وتربد وجهه.
 أما بعد النبؤة فقد كان
محمد يجد ثقلاً عند تلقيه للوحي. ويذكر زيد بن ثابت أن فخذ النبي وقعت مرة على فخذه أثناء تلقيه للوحي فما وجد ـ أي زيد ـ ما هو أثقل من فخذ النبي. وأحياناً يوحى له وهو على ظهر الناقة لدرجة أن ذراع ناقته "العضباء" كاد أن ينفصم من ثقل النبي.

يلخص الرصافي هذه الأعراض والتي تأخذ أكثر من هيئة كالرعدة، والإغماء، واحمرار العين، وتربد الوجه، وتحدر العرق من جبينه حتى وقت البرد، حصول دوي يشبه دوي النحل، ثقل الجسد، وما إلى ذلك بأنها أقرب ما تكون كحالة المصروع أو من به صرع لا علاقة لها بالوحي حيث أنها كانت تعتريه قبل النبوة وقبل أن يوحى إليه.
عجائب الأسفار
تذكر كتب السير أن
محمداً صاحب عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام ولم يكن عمره قد تجاوز التاسعة بعد. لنترك ما نقلته الكتب التراثية ـ رغم التفاوتات فيما بينها كالعادة ـ بشأن ملابسات وتفاصيل الحوار الذي دار بين الراهب بحيرى مع الصغير محمد وعمه أبي طالب. ولنترك تحذير بحيرى للعم العطوف من احتمال تعرض اليهود للصبي، إذ من الواضح أن الروايات الإسلامية لا تفوت الفرصة دون النيل من اليهود بكل الطرق. المثير في أمر تلك الرحلة ما كان من أمر تلك السحابة العجيبة التي كانت تظلل رأس محمد طيلة الرحلة دون أن ينال أي من أعضاء القافلة التجارية فرصة الاستمتاع بظلها الحاني والاحتماء بها من سياط لهيب الشمس الحارقة. كعادته يلتقط الرصافي بكل ذكاء تلك التفاصيل الغائرة في مثل هذه الحكايات ليبدأ بإخضاعها لمعايير النقد. يعلق الرصافي على هذه الحادثة الخارقة لقوانين الطبيعة بمزيج لطيف من الجدية والسخرية بقوله: ".. فيلزم أن تكون تلك السحابة قطعة صغيرة بحيث تكفي أن تظل شخصاً واحداً، وإذا كانت كذلك فلأجل أن يصيب ظلها محمداً يلزم أن تكون دانية من رأسه بحيث لا يكون ارتفاعها أكثر من قيد رمح، وذلك لأن ظل السحابة يكون مخروطاً قاعدته في السحابة ورأسه في الأرض، فلجل أن يحصل منها ظل في الأرض يلزم أن يكون رأس الظل المخروط غائصاً في الأرض، وكلما كانت السحابة دانية من الأرض أكثر غاص رأس المخروط أكثر وحصل منه في سطح الأرض ظل أكثر، والعكس بالعكس..."
لم تكن هذه الرحلة إلى الشام بالأخيرة فقد قام محمد بأكثر من رحلة في شبابه بصحبة ميسرة غلام خديجة بنت خويلد وبصحبة أبي بكر الصديق. لم
يخلُ ذكر أي من سفراته المتعاقبة من تطعيمها وتبهيرها بمعجزات وخوارق على شاكلة السحابة العجيبة، والجلوس في ظل شجرة لا يجلس تحتها غير الأنبياء، وتكفل ملكين بمرافقته وحمايته بجناحيهما من حرارة الشمس. أما رحلته إلى اليمن بحصبة عمه العباس بن عبد المطلب وعمه الزبير بن عبد المطلب عندما كان محمد في السابعة عشر من عمره فقد حظيت الأخرى بإعمال بطولية من نوع آخر. لم يظهر هنا محمد في دور المتلقي السلبي للمعجزات بل أنه في رحلته لبلاد اليمن ساهم بإيجابية في صناعة المعجزة على مرأى ومسمع من عميه. يروي الرصافي نقلاً عن صاحب السير الحلبية من أن الثلاثة مروا بوادي يسيطر عليه فحل من الإبل يمنع القادمين من اجتيازه. عندما لمح الفحل محمد برك وحك الأرض بكلكله. لقد كانت نظرة من عيني محمد للفحل العنيد كافية لترويضه وكسر شوكته التي طالما كان يتباهى بها ويحول بكل غرور بني البشر من المرور بالوادي. وإمعاناً في تأديب هذا الفحل المتسلط فقد نزل محمد عن دابته وركب الفحل المنكسر ليسير به بكل خنوع حتى اجتاز الوادي. أما عندما عاد تجار قريش قافلين إلى مكة، فقد مروا أيضاُ بوادٍ تجري فيه مياه غزيرة. مرة أخرى يتدخل محمد لإنهاء المشكلة بمعجزة أشد فتكاً من سابقتها وأقرب إلى معجزة موسى الذي فلق البحر بعصاته السحرية. لقد تقدم محمد بجرأة نحو الماء الذي سرعان ما يبس، ربما تحول إلى طبقة من الجليد أو تسرب إلى باطن الأرض، حتى عبر الثلاثة الوادي بالحفظ والسلامة. وعندما وصلوا إلى مكة شاعت أخبار الأعمال البطولية فتنبأ الناس بمستقبل استثنائي لهذا الشاب. وعلى ما يبدو فإن ذاكرة المكيين كانت مملوءة بالثقوب إلى حد أنهم نسوا أو تناسوا ما جاء به محمد من معجزات هائلة في صباه وشبابه، فتصدوا لدعوته التوحيدية بكل صلف ووقاحة، وكأن لم يكن فيهم رشيد يذكرهم بأي من المعجزات التي كانت واحدة منها كافية لاستمالة قلب الحجر قبل البشر، فقاتل الله النسيان وما أنساهم إلا الشيطان الرجيم!

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط