هشام محمد / May 15, 2009

لو سألت أياً كان، ذكراً أم انثى، كبيراً أم صغيراً، متعلماً أم جاهلاً: أي القرون خير؟  لجاءتك الإجابة قبل أن يرتد إليك طرفك: "قرن النبي محمد واصحابه رضوان الله عليهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".  كلمات حديث، ربما قاله وربما دُس عليه، حفرت حروفها ومعانيها في دواخلنا، فصارت حقيقة كونية جلية، ترفض النقاش والتفكير والسؤال.  للحديث هذا في وجدان المسلم منزلة سامقة من التصديق ودرجة عالية من الإيمان، مثلما حضيت به أحاديث شتى: شجر الغرقد، وحتمية ظهور المهدي، وأشراط الساعة، وحور الجنة، والشجاع الأقرع، والحبة السوداء، وغيرها.

 

 خليط ساذج من الخرافات والأكاذيب والهلوسات، مازال حياً ومتألقاً وموجهاً لبوصلة القلب ودفة العقول بإتجاه اللامعلوم والجنون.  تحيا الخرافات والغيبيات عندنا في ظلال الحقائق والمرئيات، دون أن يعي المسلم أي متناقضات يعيش وسطها، وأي متضادات تجتمع بين اضلاعه.  عندنا هنا تمتزج النار بالماء، فلا النار تشرب الماء، ولا الماء يطفيء النار.  انظر – مثلاً – إلى المرأة من وراء سياج العالم الإسلامي، وهي تنثر ابداعاتها، وتتسلق أرقى المناصب والذرى، وتتنافس مع الرجل في كافة الميادين والمواقع.  ولما تنظر من وراء الثقوب... والمرأة هنا حتى في أكثر بقاع العالم الإسلامي تشدداً وتصلباً قد بدأت تقف على قدميها دون أن تتسند إلى رجل يسيرها ويقودها.  كيف تستقيم هذه المشاهدات الحية التي تلتقطها العين، وتلمسها العقول مع ما يؤمن به المسلم والمسلمة ويقر به قلبه وقلبها بأن المرأة ناقصة عقل ودين، كما جاء في الحديث؟!       

 

أي خطر يحمله حديث خير القرون هذا لنا وغيره من أحاديث أكثر مما تحصى؟  إن ما ينسب إلى النبي، صدقاً كان أم كذباً، يبقى – شئنا أم ابينا –  يعد معياراً للحقيقة ومرجعاً للمصداقية عند اتباعه، حتى لو اضطررنا لفقء عيوننا ولسد آذاننا حتى لا نرى ولا نسمع إلا ما يمليه علينا النص الغابر.  عندما نؤمن بما جاء في هذا الحديث، فهذا يعني...

أن نلبس من انجبتهم الصدفة التاريخية في ذاك القرن غلالة من نور...

وأن نعيد كتابة من عاش هناك - كما نشتهي ونحب - بلا خطيئة وبلا دنس...

وأن نجعل أصغرهم شأناً، وأدناهم قدراً أعظم من أي رجل فينا اليوم مهما كبر شأنه، وعلا قدره...

وان نصنع من رماد من عبروا بوابة القرن الأول نجوماً متلألئة نهتدي بضوءها في دروباتنا المظلمة...

وأن نسمي المجزرة (ملحمة)، وأن نسمي السرية (دفاع عن الذات)، وأن نسمي حد السيف (غصن زيتون)...

 

روجت الجماعات الدينية لمثل هذا الحديث، وانزلقت وراءها العامة، تردده بشكل هذياني دون وعي، و دون تفكير بمآلات الانسياق وراءه.  تلك النوستاليجية تشف عن عجز فاضح لقوى الإسلام السياسي في التعايش مع الحاضر، وفي التخطيط لبناء المستقبل.  الماضي فقط هو كل ما تمتلكه تلك الجماعات من ذخيرة بالية كبندقية (أبو منقاش الفلاح العراقي) التشيكية القديمة لتستلهم منه معنى وجودها ومبررا لخطابها، لكن هل بمقدورها إدارة عقارب الزمن في الإتجاه المعاكس؟  بالتأكيد لا.  الماضي لا يعود أبداً، وهذا ما تعجز عن قبوله واستيعابه.  والمصيبة الكبرى أن "خير القرون" الذي جعلوا منه النموذج والأمل والمنتهى ليس بتلك الجمالية والعظمة والطهرانية، كما يزعمون.  وإليك بعض النتف الصغيرة مما نقشته ذاكرة كتب التراث (الإسلامي):  

أحداث سقيفة بني ساعدة العاصفة، واقتتال الصحابة على خلافة النبي الذي لم يُوارَ الثرى بعد، وما خلفته من كراهية ومرارات لم تزل تعتمل وتتفاعل في نفوس ابناء الدين الواحد حتى انفجرت أيام عثمان.

حروب القبائل المرتدة عن الإسلام، وحروب القبائل الممتنعة عن دفع الزكاة إلى الدولة المركزية في المدينة، وما اسفرت عنه من قتلى بالالآف.  مات نصفهم لانهم خلعوا قميص الإسلام الذي لبسوه خوفاً، ومات النصف الآخر لأنهم قالوا لأبي بكر نحن اعلم بمن يستحق الزكاة فينا.

تقطيع عثمان أجزاء الدولة وأطرافها على أهله الأقربين من بني أمية، وغرفه من خزائن اموالها ومن عرق أهل الذمة وصبه في كفوف ابناء عشيرته، واستبداده بالأمر، مما أفضى إلى وقوع ما يعرف بالفتنة الكبرى التي كان عثمان ذاته أول ضحاياها، وما تلاها من انقسام حاد في صفوف المسلمين سيظل باقياً إلى أن يطوي الله الأرض ومن عليها.

حرب الجمل الدامية، والتي دفع فيها الآف المسلمين حيواتهم ثمناً رخيصاً لاشباع نزوات طلحة والزبير السلطوية، ولإطفاء احقاد أم المؤمنين عائشة على علي بن أبي طالب  على خلفية حديث الأفك.

حرب صفين الدراماتيكية، وما صاحبها من رفع المصاحف على أسنة الرماح بحيلة عمرو بن العاص، ومن سقوط المزيد من القتلى هنا وهناك، ومن تفتت قوى جيش علي، ومن انشقاق فرقة الخوارج الدموية.

مصرع عمر بخنجر أبي لؤلؤة المسموم، ومقتل عثمان في داره على يد الثوار، وسقوط علي بضربة الخارجي عبدالرحمن بن ملجم، وقبل هؤلاء كلهم مات أبي بكر بعد معاناة طويلة من أكلة مسمومة.

ابتداع معاوية سياسة الإطاحة بمنافسيه وبمنافسي ابنه يزيد، امثال الحسن بن علي وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد ومالك بن الأشتر بشربة العسل المسموم (إن لله جنود من عسل).  تلك الطريقة صارت فيما بعد أسلوب كلاسيكي، مارسه امراء بني أميه في إزاحة مناوئيهم على الخلافة، وفي التخلص من بعضهم البعض، كما وقع لمعاوية بن يزيد بن معاوية وللخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز.  

استباحة المدينة المنورة بعد انتصار جيش يزيد بن معاوية في موقعة الحرة الشهيرة، ولمدة ثلاث أيام، قتل فيها سادة المدينة واعيانها وعدد من الصحابة، واغتصب فيها فتيات المدينة بلا رحمة.

محاصرة جيش يزيد بن معاوية لمكة التي تحصن فيها ابن الزبير، وضربها بالمنجنيق حتى احترقت، ولولا وصول خبر وفاة يزيد للحق بها وبأهلها ما لحق بمدينة الرسول وأهلها.

استشهاد سبط النبي الحسين بن علي في كربلاء، وذبح بقية أهله على يد الجيش الأموي ايام يزيد بن معاوية، في موقعة مأساوية مازالت نارها تتلجلج في الصدور حتى يومنا هذا.

تمزق الخلافة الإسلامية وتفككها إلى ثلاث دويلات متناحرة: بني أمية في الشام، الزبير في الحجاز، والمختار الثقفي في العراق.  قضى الزبير على المختار وقطع رأسه، ثم قضى الحجاج الثقفي على الزبير وصلبه.

سادية ودموية ولاة بني أمية الأشداء على العراق، بدايةً بزياد بن ابيه، ومروراً بالحجاج، وانتهاءً بيوسف بن عمر، وإن كان الحجاج بافراطه في القمع واسرافه في القتل قد فاق الجميع وحشية وجنوناً.

اندلاع حروب طاحنة، وانفجار ثروات عارمة، واشتعال النيران في جسد دولة الاستبداد.  لا تكاد تنطفيء نار حتى تشب أخرى.  شربت رمال الصحاري دماء كثيرة، وبددت أموال وخيرات طائلة على الجيوش والتقاتل والجواري والخصيان، فلا أرواح صينت، ولا حريات كفلت، ولا مشروعات اقيمت، ولا كتب وضعت.  لا شيء فقط... سوى الموت والخراب.

 

تلك نخبة من وقائع وأحداث، دونتها كتب الرواة والمحدثين، فلا يجرؤ أي كان، مهما بلغ به التعصب، ومهما ضاق به الأفق، أن ينكرها أو يشكك في تاريخيتها، وإلا فإنه يضع تاريخه المقدس بأكمله تحت أضواء النقد والمساءلة، وهو ما لا يحبه ولا يرضاه.  سيقول البعض: تلك والله إنتقائية بعينها.  وردي ببساطة: نعم، إنها هي كذلك انتقائية مني.  ولو كان خير القرون بكل تلك العظمة والطهر والكمال، لما وجد (خبيث طوية) من أمثالي مسلكاً ليطعن ويشكك في أزهى عصور الإسلام وأرقاها.  خذ صفحات ذاك القرن الذهبي وقلبها بين يديك من الغلاف إلى الغلاف.  سطوره وكلماته وحروفه مغموسة بدم قاني.  ومن يقل بغير ذلك فليأتني ببرهانه إن كان من الصادقين.

 

ما الذي يؤهل ذاك القرن حتى يقال عنه هو الأكمل والأعظم والأنقى وما إلى ذلك من باقي صيغ أفعل التفضيل؟  أهي ارهاصات النبوة واشراقات الإسلام الأولى؟  أم هو تدافع قبائل الجزيرة على دخول الدين طوعاً أو كرهاً؟  أم يا ترى هو سقوط دولتي كسرى وقصير تحت ظلال سيوف غزاة الصحراء؟  لا الغزوات، ولا الاغتيالات، ولا الفتوحات، ولا سبايا فارس وبني الأصفر تكفي لمنح القرن الأول كل نعوت التقدير والتبجيل.  ولعل هناك أمر لا يعيره المسحورون بعبادة الأسلاف، وهو غياب الفرد، ذلك الإنسان المنسي المسحوق تحت جنازير الدولة.  يتراءى لي كما لو كان هذا الفرد مجرد ترس صغير وسط آلة دولة العسكر الممتدة عبر الجهات الأربع.  لقد بقي الفقر والتخلف والأمية والظلم والتهميش والاستبداد حاضراً في قرن مازال المسلمون يعدونه الأكمل والأعظم والأنقى.        

 

ولو أنك خيرت من ينافح عن فضل  وعظمة خير القرن، ويتباكى عليه، بين أن يعيش في زمننا هذا أو أن يرجع إلى اكثر من أربعة عشر قرناً، لاختار زمننا هذا رغم كل ما فيه من مثالب: تشرذم سياسي، وهزائم عسكرية، وامراض اجتماعية، وتخلف اقتصادي، وتدهور تعليمي وصحي.  سيختار "شر القرون" على "خير القرون" لإنه يعلم جيداً أنه اليوم يجد تعليماً متطوراً لم يتح لأسلافه، ويجد دواء لعلل وأمراض فتكت بأسلافه، ويجد غذاء صحيا ومتنوعا لم يتذوقه أسلافه، ويجد وسائل سفر وتنقل لم يحلم بها أسلافه، ويجد وسائل اتصال فائقة لم تخطر ببال أسلافه، ويجد وسائل راحة ورفاهية ما علم بها أسلافه، ويجد وسائل تعبير حرم منها أسلافه، ويجد...ويجد...مالم يسمع أو يفكر حتى بها أسلافه. 

ألا تكفينا تلك المقارنات السريعة والبسيطة كي نعيد النظر في خرافة خير القرون؟  دون أن ننسى بالطبع التوجه بالشكر إلى "الأمم الكافرة" والتي لولاها لبقي حالنا اليوم كما كنا عليه أيام السلف الصالح...أيام خير القرون!  

==============

affkar_hurra@yahoo.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط