المعتقدات الدينية جزء من التكوين الثقافي والمسلكي والتراثي والبيئي للفرد والمجتمعات، سواءً أكانت تلك المعتقدات جيدة أم رديئة، مضرة أم مفيدة، إيجابية أم سلبية، عاكسة للغباء أو متفردة بالذكاء، جميلة أم دميمة، وعليهِ لا يمكن أن نجرّد الآخرين من معتقداتهم الدينية لمجرد إنها تخالف ما نحن عليه من معتقدات أخرى، سواءً أكانت دينية أم فلسفية أم حياتية، وذلك لأن حرية المعتقد الديني أو غير الديني يجب أن تبقى شأناً خاصاً بالفرد وحده، وواحدة من أقدس حقوقه الإنسانية والمدنية والدينية بشكل عام، كما تنص على ذلك مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الحقيقة لستُ بصدد الحديث عن حرية المعتقد الديني، فهذه المسألة بالنسبة لي على الأقل منتهية ومفروغ منها، فكما أن لكَ حقاً كاملاً في ممارسة أي نوع من المعتقدات الدينية أو غير الدينية بطرق سلمية بعيدة عن مظاهر العنف وبالتالي بعيدة أيضاً عن أساليب الفرض بالقوة، كذلك فإن للآخر نفس الحق في ما يراه بالنسبة له ولكن بنفس الاشتراطات تلك، ومخالفة هذا الأمر يعتبر تعدياً صارخاً على الحقوق المدنية والدينية والإنسانية للآخرين، وخاصةً إننا نعيش في واقعيات الألفية الثالثة التي تجاوزت أو من المفروض إنها قد تجاوزت أيّ شكل من أشكال الوصاية والإرهاب والاستلاب والقمع والاستبداد الديني أو غيره، بحكم تطور فهم الإنسان للحياة، وبحكم تشكّل مناخات الحريات الفردية وثقافات حقوق الإنسان والمجتمع المدني كمفاهيم كونية تنتصر لقيم الفرد الإنسانية..
ولذلك سأتجه للحديث عن واقع المعتقدات الدينية في المخيال والعقل الجمعيين للمسلمين في الحياة المعاصرة وأثرها عليهم كواحدة من أقوى المُحركات الفهمية التلقينية في صياغة القناعات والثقافات والمسلكيات، التي عادةً ما يكون عليها الأفراد والمجتمعات في العالم الإسلامي، وقد تكون تلك التوطئة الموجزة بخصوص حرية المعتقد الديني مهمة ربما للولوج إلى مضمون المقال..
ليسَ خافياً على أحد أن المعتقدات الدينية تتحول من خلال تراسلها التاريخي وتناسلها الوراثي وعبر تشبعها بالكامل بالجوانب اليقينية والغيبية والقدرية إلى ذاكرة جمعية في المشهد المجتمعي بصورة عامة، لتأخذ تالياً أشكالاً طقوسية معينة تتمظهر في أغلب الأوقات في مشهديات جمعية، يكون من الصعب على المجتمعات محاولة الخروج عليها أو مناقشتها من حيث صلاحيتها أو من حيث جدوى مكوناتها الثقافية أو من حيث مدى أهميتها للإنسان بشكل عام في حياته المعاصرة والواقعية، ولذلك نجد أن الفكر الديني بمستوياته المختلفة العامة وبمنطوقاته الأدبية وبمنقولاته التراثية وبمكوناته الغيبية واليقينية والقدرية، يُعطي للمعتقدات الدينية الأهمية القصوى كونها المُحرك الأساس لسلوكيات الفرد ولأفكاره ولثقافاته ولقناعاته وحتى لمشاعره ولحالاته الشعورية والنفسية، وفي مقابل ذلك يسعى الفكر الديني للترويج لتلك المعتقدات الدينية وفق عقلية احتكار الحقيقة بشكل مطلق ويقيني وغيبي، إلى درجة السعي الحثيث والأكيد والمستميت لمحاولة (تديين) كل اتجاهات الحياة المختلفة والمتعددة وتغليفها بالصبغة الدينية، حتى أن الحقائق العلمية والفلكية والحياتية المختلفة يتم (تديينها) بطريقة أو بأخرى، ومحاولة جرّها وجرجرتها قسراً لتتوافق مع المعتقدات الدينية للفكر الديني..
ولا شك في أن المعتقدات الدينية إنما تتكاثر وتتوسع وتتضخم وتتجسّد في قوالب معرفية تلقينية وشفهية ويقينية مطلقة، وتتشكل أيضاً في حالاتٍ أخرى في قوالب أسطورية أو وهمية أو خرافية، وتأخذ بالتالي أشكالاً مظهرية وجمعية، إنما تتكاثر وتتضخم عادةً وعموماً في المجتمعات المنغلقة ذات الأفق المحدود والأحادي الفهم، وعادةً ما تستسلم تلك المجتمعات لهيمنة المعتقدات الدينية وتنغلق عليها وتتعصب لها وتتمحور حولها وتتخذها مسلكاً ثقافياً عاماً لها في مختلف مناحي حياتها، لاغيةً بصورة تلقائية قيمة العقل والتفكير والبحث والنقد والمساءلة، لتغرق مستمتعة ومتخدرة بثقاقة التلقين والشفاهية وبثقافة القدريات والغيبيات واليقينيات الدينية، ولذلك كلما كان المستوى الثقافي للأفراد والمجتمعات متدنياً وسطحياً وقشرياً وضحلاً بشكل عام، تكاثرت في مقابل ذلك في تلك المجتمعات المعتقدات الدينية التلقينية والشفهية والقدرية والغيبية واليقينية، لتتحول مع مرور الزمن إلى صنميات ثقافية ومرجعيات حياتية ويقينيات مطلقة وحقائق نهائية، وربما الأخطر في هذا المجال أن يمنح الفكر الديني للمعتقدات الدينية على اختلاف مستوياتها ودرجاتها وأشكالها الطقوسية ومكوناتها المعرفية صفة الاستمرارية وعقيدة الصيرورة وحتمية الديمومة وفق منطوقاتها الماضوية والتراثية، ووفق ما كانت عليها في نشأتها وظروفها التاريخية، ولذلك ليس مستغرباً أن من أكثر المفاهيم الرائجة التي تجذرت كحقيقة مطلقة في الذاكرة الجمعية للمجتمعات المنغلقة، هي أن المعتقدات الدينية صالحة لكل عصر وزمان وصالحة في كل مكان ويجب تعميمها على كل جوانب الحياة، بغض النظر تماماً من قِبلهم عن محاولة عصرنتها أو اصلاحها أو تغييرها أوالارتفاع بها فهماً ومسلكاً لمواءمة الواقع والحياة العصرية، مع تحفظي الشديد بطبيعة الحال على مفهوم عصرنة الدين أو مفهوم الإصلاح الديني، إلا إذا كانت هذه المفاهيم تتجه نحو مزيدٍ من الفصل بين ما هو ديني وما هو مدني في الحياة بصورة عامة، أو الفصل بين ما هو عقيدي ديني صرف وما هو واقعي وحياتي وعقلي، وإلا فمن غير ذلك ستكون هناك هيمنة كاملة للديني على المدني في المجتمعات الإنسانية، كما هو حاصل تماماً في المجتمعات الإسلامية بشكل عام..
ومن خلال الممارسات الثقافية والسياسية والمسلكية للفكر الديني وانطلاقاً من معتقداتها الدينية المطلقة واليقينية والغيبية، أصبح معنياً أي الفكر الديني سواءً السني منه أو الشيعي، بصورة دائمة ومستمرة وبطريقة فجة وبأحقية مطلقة يمنحها لنفسه، بإثارة الصراع مع مختلف الاتجاهات الأخرى غير الدينية في المجتمع، وتصويره على أنه صراع حتمي وضروري ومقدس بين القداسة من جهة وبين الدناسة من جهة أخرى، بين الطهارة من جهة وبين النجاسة من جهة أخرى، بين تعاليم السماء من جهة وبين قوانين الأرض من جهة أخرى، وتصويره في نهاية الأمر بأنه صراع بين الله من جهة وبين الشيطان من جهة أخرى، ولذلك نجد أن المنتسبين للفكر الديني المسكونينَ دائماً بثقافة المعتقدات الدينية اليقينية والغيبية والمطلقة، سواءً مَن يعمل منهم في الحقل السياسي أم مَن يعمل في المجال الدعوي يضفون صبغة ربانية مقدسة على خلافهم السياسي أو الثقافي مع التيارات الأخرى العاملة في الساحة، سواءً أكانت ليبرالية أو علمانية أم وطنية أم غير ذلك، ويجعلون من خلافهم مع تلك القوى الإجتماعية والثقافية والسياسية أو غيرها بشأن كل ما يرتبط بالمجتمع والسياسة والحياة، يأخذ شكل الخلاف الديني العقائدي الصرف، وليس وارداً في ثقافتهم الدينية ومعتقدهم الديني ومسلكهم السياسي الإسلامي التعايش مع الأفكار والثقافات المغايرة إلا مَن أتى بصكٍّ من السماء، وعليهِ نجدهم قد قسّموا الناس في المجتمعات إلى فسقةٍ وصالحين، وإلى منحلين ومطهرين، وإلى مفسدين ومؤمنين، وفي النهاية إلى أنبياء في يدهم خلاص العالم وصلاح الأوضاع والقضاء على كل الشرور والآفات والموبقات..
ولذلك لا يمكن التغاضي عن خطورة أن يهيمن الديني على المدني في المجتمعات، وخطورة أن يلغي ويقصي الديني الفكر المدني من الحياة بصورة عامة، وخطورة أن يستحوذ الديني على كل شيء، وخطورة أن يتعصب الديني لمعتقداته الدينية ناكراً على المدني حقه الطبيعي والإنساني في الحياة، وخطورة أن يسعى الديني لتديين وأسلمة كل مناحي الحياة، سالباً بالقوة والفرض والحاكمية والوصاية الروح المدنية من أشكال وأساليب وطرائق ومفاهيم الحياة بشكل عام، ومن هنا قد يكون علينا أن نفهم جيداً وعميقاً كم كان مهماً وضرورياً النضال المدني في المجتمعات الأوروبية مع بدايات عصر التنوير من خلال عمله الطويل والمضني على عزل الديني بمعتقداته وممارساته الدينية حينما أصبح افتراسياً وانغلاقياً وتعصبياً واستبدادياً عن الحياة المدنية مجملاً، وعزله عن التدخل السافر والصارخ والفج في اختيارات وخيارات وحريات الفرد والمجتمع..
محمود كرم، كاتب كويتي tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط