الإنسان منذ الأزمنة السحيقة كان دائم البحث عن حقيقةٍ ما تتمثل في إلهٍ ما أو في عقيدة ما، يجد فيها بالتالي القوة المطلقة أو اليقين المطلق أو الراحة النفسية أو نهاية الطريق، وحتى بعد ظهور الأديان ظلّ الإنسان دائم البحث عن حقيقة الحياة والوجود والخلاص واليقين، وذلك لعدم قدرة الأديان إلى هذه الساعة عن الإجابة على أسئلة الإنسان الحائرة المتعلقة بقضايا الكون والوجود والإنسان..
ولا أعرف بالضبط هل إن التوصل إلى معرفة الحقيقة المتمثلة في الإله أو في العقيدة يمثل بالنسبة للبعض ضرورة بالغة أم لا، ولكني أعتقد أن الكثيرين في وقتنا الحالي ربما لم يعودوا مهتمينَ بالبحث عن تلك الحقيقة، ولم يعد يشغلهم هذا التفكير، ربما لأنهم وجدوا أن العقل الإنساني الحالي قد اجتاز المنظومة المعرفية العقائدية للأديان، وتجاوزها بمراحلَ كبيرة باكتشافاته العلمية المذهلة وبفتوحاته المعرفية والفلسفية على أكثر من صعيد، وبذلك أجابَ العقل على العديد من أسئلة الإنسان الشائكة والغامضة وفسّرَ له أيضاً الكثير من ظواهر الكون والطبيعة، ويرون أن العقل لم يعد بحاجة إلى الإنشغال طويلاً ومتشظياً في مسالك هذا التيه الذي لا نتيجة من وراءه، وتبقى تلك الحقيقة خاضعة للإيمان الفردي الصرف كلٍّ حسب تفسيره وفهمه وتأملاته وطريقته، بينما أولئك الذين يتوارثون الدين، أي دين، أباً عن جد، يبقون في منأىً وأمان من تساؤلات العقل القاسية عن ماهية الوجود وحيثيات الأديان وتراسلها التاريخي، ولذلك يجدون أن البحث في هذا الأمر يعتبر ضرباً من الكفر أو الزندقة أو الطعن الأليم في اليقينيات والمسائل الغيبية التي توارثوها يقيناً بعد يقين وجيلاً بعد جيل من دون أيِّ تساؤل أو تفكير أو نقد أو بحث أو تفكيك..
وإذا ما تجاوزنا مسألة أن الأديان الرئيسية (السماوية)، ترى في نفسها مدافعة حقيقية عن (الإله) وأيضاً ناطقة وحيدة باسمه، سنجد إنها في مقابل ذلك ترى إنها تملك الحقيقة المطلقة التي لا جدال فيها ولا تشكيك، والبعض منها لا تكتفي بمجرد ترسيخ فكرة (الإله) المسيطر والمتربص والمهيمن والمُراقب لأفعال البشر والمُحاسب على أفعالهم، بل وجدت نفسها معنية مباشرة بإرشاد الناس وتوجيههم والهيمنة عليهم والوصاية على عقولهم..
والقول الشائع في الأديان يؤكد على أن مَن لا ينتمي إلى عقيدة دينية تتأسس على الإيمان المطلق بيقينياتها وتعاليمها ونصوصها وغيبياتها، يعيش ممزقاً وضائعاً ويفتقد المحورية والمركزية في حياته، ولكنهم يتجاهلون أمراً يؤمن به أولئك الذين لا تعنيهم معتقدات الأديان المتوارثة المعروفة، وهو أن توجهاتهم الفلسفية وتأملاتهم الذاتية واستنطاقهم لماهيات الأشياء في هذا الخصوص تعتبر بالنسبة لهم معتقداً يلهمُ جانباً تفكيرياً وعقلياً ونفسياً وشعورياً مهماً في أنفسهم وذواتهم، ويجيبون من خلالها بمستويات متقدمة من الإطمئان الذاتي على تساؤلات عقولهم الدائمة والتي لا تتوقف عند سقف محدد..
ويذهب الدينيون الإسلاميون إلى تأكيد حقيقة مطلقة في الأوساط المجتمعية لا تقبل الحوار والجدل، تتمثل في أن الهدف الأساسي من وجود الإنسان في الحياة هو العبادة فقط وما الدنيا إلا دار عبور يجب أن يعمرها المسلم بالعبادة وتأدية الفروض العبادية والعمل على أن يُدخل الناس أفواجاً ومن كل مكان من العالم في دينه، وأن مَن لا يؤمن بهذه الحقيقة يعيش حياته بلا هدف وتصبح بالتالي عبثاً ولهواً وسوف يُحاسب عليها أشد الحساب، وكثيراً ما نسمع هذا الكلام يتردد على ألسنتهم يرددونه بيقين تام يتسم بالسذاجة، بينما الأصل في الأمر لا يعدو كونه محض اختيار شخصي وقناعة ذاتية لا دخل للمسلمات الدينية المتوارثة فيها، وإذ يشعرون ويعتقدون أنهم قد توصلوا إلى هذه الحقيقية اليقينية بوعي أو من غير وعي فهذا الأمر بالنسبة للآخرين يعتبر أمراً لا بأس فيه، لأنهم قد عرفوا الهدف من حياتهم ومن خلقهم، ولكن عليهم ألا يفرضوا هذه الأمر فرضاً إجبارياً على غيرهم، وأن يتركوا الآخرين يختارون ما يريدون في حياتهم ويختارون ما يناسبهم وما يلائمهم، وقد يتوصلون في يوم ما إلى حقيقة ما ترشدهم إلى معرفة الهدف من وجودهم، (كن متسامحاً بلا حقيقة، ولا تكن متعصباً ومعك كل الحقيقة) كما يقول المفكر القصيمي..
وهؤلاء الذين يدافعون عن حقيقتهم المطلقة ويقاتلون الآخرين من أجلها ويستبشعون في غيرهم اختلافهم عنهم ألا يدركون ما هم عليه من تعصب وقباحة وبذاءة وأنانية، فالساعي إلى الحقيقة يتطلب الأمر منه أن يكون متسامحاً وأن يكون داعياً للمحبة والخير وأن يكون إنسانياً في أحاسيسه وتعاملاته وتفكيره وأن يكون مؤمناً أيضاً بحق الآخرين في إنسانيتهم واختيارهم وحريتهم وقرارهم وحياتهم..
محمود كرم، كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط