ربما أستطيع القول أن الوعي الإنساني قد اجتاز مراحل كبيرة في قدرته على التعامل الإيجابي والذاتي والفعّال مع حركة الحياة، واستيعابه لوجوده الحقيقي على مسرح التحولات التاريخية والتغيرات الحياتية، ففي مرحلة سابقة من تاريخه كانت ثقافة الغيبيات وعالم الماورائيات، الأفق الوحيد الذي يتحرك من خلاله، وكانت بمثابة المحرك الأول والأخير لِكامل فعله الوجودي في الحياة والذي يتأسس بصورة تلقائية على طبيعة وقوة وقداسة انتماءاته الغيبية، وكان من الطبيعي أن تضيع من الإنسان الفرد في هذا العالم الضاج بالتهويمات والفنتازيا التخيلية وثقافة الركون المطلق لمنطق الغيبيات أسس الفهم المعرفي والتداول الفكري في معناه التفاعلي مع الحياة، والمنهجية في التفكير الذاتي الحر القائم على المماحكة المنطقية للواقع والظروف والمتغيرات، ونتيجة لذلك أصبح فعل الإنسان يتمحور حول الانغماس في الكهنوتية والتسليم لثقافة الماورائيات، وانعدمت عنده طرق الفهم العقلاني وسبل التقصي المعرفي في علاقته بالأشياء والأحداث والمظاهر والتحولات من حوله، وافتقدَ تبعاً لذلك اللغة التي من خلالها تمنحه ضرورات التواصل الحقيقي المنطقي مع لغة الحياة المكثفة بالتنويعات المعرفية والأعماق الوجودية والجوانب الإنسانية..
ما أعنيه تحديداً من ما سبق أن التحول والتطور في الوعي الإنساني حدث مع انتقال الإنسان من عالم الغيبيات إلى واقع العقلانية المحسوس، فبدلاً من أن تتمحور حياته حول القدريات والغيبيات والأساطير في تفعيل وجوده وادراك طبيعة حضوره، أخذ يتحسس عمق وجوده الكياني وأبعاد علاقته مع كل ما حوله باعتماده في حركته الوجودية على التفاعل الفكري العقلاني المثمر مع كل ما يتداخل طردياً في حركة التجاذبات الحياتية، بمعنى آخر فإن التوجه نحو الارتكاز على الفعل الفكري بدرجة أساسية في التعاطي الحي مع حركة الحياة يمد الفرد بالوعي العميق لحقيقة وجوده وممارساته الثقافية والحياتية، وكما يقول المفكر علي حرب: (حصلت طفرة في الوعي، إذ أصبح الإنسان يعقل وجوده من خلال الفكر بالدرجة الأولى، بمعنى أن يمارس وجوده وحضوره وسلطته في هذا العالم، وبين الناس، من خلال الفاعلية الفكرية، أي بقدر ما يقيم مع فكره علاقة حية وخصبة، خلاقة ومتجددة)..
ولذلك كلما كان الإنسان معتمداً على الاستنطاق الفكري والفاعلية الفكرية، كلما كان قريباً من الاحساس الفعلي لماهية حضوره وحركته وممارساته في مساحات الحياة العديدة، فمن خلال بناء الفرد لتلك العلاقة التداولية التفاعلية مع عالم الفكر، يستطيع أن يتحسس فاعلية حضوره ووجوده ومدى علاقته مع ما حوله، وبقدر ما يكون الإنسان متداخلاً مع الأفكار ومستنطقاً لها ومتحسساً لحراكها بقدر ما يكون متحمساً لعلاقة تبادلية معها تقوم على مبدأ التجدد والتطور والفهم الحي والخصوبة الثقافية، ولذلك فمن غير التركيز على تأسيس علاقة حية وخصبة مع عالم الأفكار سيقع الفرد بالتالي في هاوية التسليم المطلق لثقافة الجمود وثقافة السائد، وتتمحور حركته في الحياة حول تبني مرجعية الغيبيات والخضوع التام لها، وحينما تنعدم في الفرد روح التعامل الحي والمتجدد مع الأفكار يصبح محكوماً بالتالي لعالم اليقينيات الماضوية التسلطية والتفسيرات الماورائية وقابلاً تدريجياً لقيود التقوقع في مجاهل الهويات الخانقة..
وتبقى واحدة من أكثر الانشغالات الفكرية تأثيراً في تكوين العلاقة التبادلية الحية والخصبة مع عالم الأفكار، هي الاشتغال على مستويات النقد واستثارة التراكمات المعرفية ذات المكونات المشبعة بالممارسة النقدية واستدعاء الخبرة العاكسة للفعل الوجودي التفاعلي، لأنه من خلال هذه الأدوات الفكرية يمتلك الفرد أساسيات التعامل الحر والمنهجي مع عالم المعرفيات والبواعث المكونة للمفاهيم الفكرية، وفي هذه الحالة يبقى الفكر الإنساني محتشداً بالتساؤلات الاستفهامية والمنطقية، ومبتعداً عن قوالب الثقافة اليقينية المعلبة..
واستخدام الفكر التحليلي الفلسفي المسكون بهواجس النقد والتقصي والمساءلة والبحث والتفكيك ينطلق من أفاق رحبة، عميقة الامتدادات ومفعمة بالحركة الدائبة ومتوهجة بالتجدد، ويحاول هذا الفكر المتقد بالفاعلية النقدية التغييرية أن يقتحم القوالب المعرفية للذهنية اليقينية المتخشبة، والواقعة تحت تأثيرات الثوابت الثقافية والنصوص التراثية والانغلاقات الفكرية، ونتيجة لذلك يضعنا هذا النوع من ممارسة الفكر التحليلي أمام مشهدية مكثفة بالاستبصارات التجديدية البعيدة عن التقوقع والانغلاق والصور القاتمة ومتجلية بالوضوح والانشراح والفهم المتجدد، وتكمن أهمية هذا الأمر في تلمس الطريق لبلوغ المقاصد الحياتية التي قد تصبح مكبلة بالقيود الدوغمائية للمسبقات الذهنية اليقينية، فما كان يقيناً قد يصبح تحت هذه الممارسة الفكرية مجرد وهم، وما كنا نعتقده صحيحاً قد يكون خطأ، وما اعتقدنا أنه الحل ليس سوى الخراب والتدمير، وما كنا نأمل فيه الشفاء ليس إلا داءً مستفحلاً بالفيروسات المدمرة، وما كنا نعتقد بقدسيته الأبدية ليس سوى نظرية قابلة للنقد وهكذا تجري الأمور مع تبني أسس الفكر التحليلي العقلاني وكما يقول الفيلسوف برتراند راسل: (في كل الأحوال، من الصحي بين الحين والآخر أن تضع علامات استفهام على الأشياء التي كانت ثوابت على المدى الطويل)..
ولن ينجح الفكر العقلاني في اجتراح هذه الاتجاهات التفكيكية للثقافات السائدة المتحكمة بالعقول والأذهان إذا كان مشتغلاً على مستويات الذهنية الفردانية فقط، بل يحتاج إلى تبني فعل الممارسة الواقعية المتحسسة لوجودها الواقعي لاختراق سدائد الأفكار المحتبسة بالماضوية والجمود، وانتهاج فعل الاصطدام التساؤلي بالمنطق السائد، وتحريك المياه في مجاريها الراكدة وفتح آفاق جديدة للتفكير، واتاحة الفرصة لامكانات العمل النقدي، كما حصل في عصر التنوير والنهضة حينما نزل الفكر التحليلي الفلسفي التغييري مع بدايات القرن الثامن العشر إلى التجمعات الشعبية والجامعات والمعاهد بعد أن كان متداولاً بين مجتمعات النخبة فقط وأخذ هذا الفكر بعدها في التمرين الطويل على وجوده الفعلي في واقع الحياة التداولية، وكان أن استطاع أن يبث الأنوار، ويقوم بجهد التفكيك ويكسر القوالب ويخترق السدود ويتمرس على تغيير المعادلات ويتقصد خلق المجالات الصانعة للفرص..
وبالطبع لن تكون هذه المهمة القائمة على انتاج الأفكار الحية ذات الخصوبة المعرفية، والقائمة على استحداث المفاهيم العصرية وتحريك المعادلات وكسر اليقينيات التلقينية والتخلص من هيمنة الثقافة الغيبية وقداسة المعارف التراثية، سهلة على مَن أخذ على عاتقه انتهاج هذا المسلك التحليلي العقلاني والنقدي والتداولي مع الأفكار ومنتوجات الحداثة الفكرية، ولذلك ستجد كل هذه التحولات التنويرية والفلسفية ذات الفاعلية التغييرية رفضاً ومقاومة وتعنيفاً من قِبل أولئك الذين اعتادوا على عدم البحث عن المشكلة والعلة في أفكارهم، ويرفضون بالتالي التوجه المباشر لتشخيص الأمراض التي تستوطن ثقافتهم ويمتنعون عن مجرد التفكير في أن المسألة تحتاج نقد الثقافة من الداخل ومعرفة مواقع الخلل فيها، وكذلك تلقى الرفض من قِبل أولئك الذين لا يريدون تحمل مسئولية فشل أفكارهم وثقافتهم في التماهي المنطقي والعقلاني والتداولي مع واقع الحياة العصرية، وكذلك من قبِل أولئك الذين يعتقدون أن اتاحة الفرصة للفكر التحليلي العقلاني الفلسفي في الانتشار والتوسع والتمدد فإن ثوابتهم ستتعرض للمس وتراثهم للتفكيك ومعتقداتهم للنقد والمساءلة، فكان أن تسيّدت الثقافة المريضة المكبلة بالجمود والقدرية والانغلاق وتراكمات التفسير التلقيني الماضوي، فظهر على السطح تبعاً لذلك الفكر التعنيفي الأحادي الذي أخذ يتفجر بالعنف والإرهاب ونبذ الآخر في كل مكان من العالم الإسلامي، ولم يلتفتوا إلى جذر المشكلة الصانعة لهذا الفكر التخريبي المدمر المريض، فكل فكر هو في النهاية صنيعة بيئة ثقافية تتشكل من خلال التأثيرات المباشرة للتراث والتاريخ والمقولات والتفسيرات، والعقول المنتجة لها والسائرة في ركابها والمبتعدة عن تشخيص العلة وظواهر الخلل ومواطن الفساد وجذور الهلاك، فالمشكلة في الأساس تكمن في هذا الجانب، في القوالب المعرفية الثقافية الصانعة لهذا النوع من الوعي الجمعي، والصانعة للنماذج الفكرية التي تنتجها باستمرار المدارس الدينية الأصولية من خلال ثقافات التلقين والتعليم المشبع بنبرة الأفضلية ومنطق الحاكمية المالكة للحقيقة المطلقة، وتتغافل تلك المجاميع والمؤسسات الدينية عن حقيقة قاسية تتمثل في أن المشكلة تكمن في هذا الجانب بالذات الذي تدافع عنه وتسعى إليه وترفض تشخيص أمراضه وهناته وسقطاته ومشكلاته وآفاته، فالفكرة أية فكرة لا يمكن اعتماد صحتها في المطلق ولا يمكن أن تحمل صحتها بمجرد إنها فكرة أخذت طريقها في التداول المجتمعي، بل الفكرة يجب أن تبقى تحمل في مكوناتها الداخلية فاعلية الخصوبة وتكون نابضة بالحيوية وخلاقة في ابداع الأنماط التداولية، التي تساهم في خلق مناخات عقلانية للحوار المثمر التبادلي الصانع لدوائر اجتماعية حرة تتداخل فيما بينها بروح تتسم بالتعايش والانفتاح وقبول الآخر، وتسعى إلى تكوين مسارات معرفية متجددة وفاعلة، تتبنى الامكانيات الجادة لإنتاج صياغات للتعايش الإنساني الحر..
=================
محمود كرم، كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط