ردود الفعل الإسلاموية والغضبة العارمة التي تمثلت في الدعوة لمقاطعة المنتجات الدنمركية وتطورت إلى حرق أعلام تلك الدولة مروراً بمهرجانات التشنج الخطابي والكتابي في تصعيد نبرة الكراهية والعداء، وليس أخيراً انتهاج العنف باصدار الفتوى التي طالبت بهدر دم الرسام الدنمركي، حسب ما نقلت الخبر مؤخراً جريدة السياسة الكويتية، وربما هناك بدائل أخرى تدرسها تيارات الاسلام السياسي لمعاقبة دولة الدنمرك ،لأن صحيفة هناك نالت من شخص الرسول والغريب أن المسلمين يعتقدون أن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها السخرية من المسلمين، فكل العالم يسخر منا ولا يعتبرنا سوى أمة خارجة عن نطاق التغطية الحضارية والعصرية، وكل ذلك بسبب إننا أمة نجبر الآخرين على أن يسخروا منا نتيجةً لأفعالنا اللاعقلانية والمتهورة وخطاباتنا اللامنطقية واحتكامنا للغة الاحتقان وأساليب العنف..
في اعتقادي ليس غريباً أن نجد كل ردود الفعل الغاضبة هذه تنطلق من أمتنا لسبب واضح وصريح، وهو أننا لا نملكُ سوى إرث واحد ندافع عنه ونتمترس خلفه ونتخندق فيه، وهو يمثل كل رصيدنا في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا..
لا نملكُ سوى هويتنا الدينية فهي خط الدفاع الأول والأخير في تراسل تاريخنا المديد، وإذا تم التعرض لهذه الهوية فمن الطبيعي أن ينتفض المسلمون وتنتفض تيارات التأسلم السياسي، فهي التي تحرك جمهور المسلمين نحو أهدافها الكبرى وغاياتها المثالية..!!
بماذا يفتخر ويتفاخر ويفاخر (المسلم) سوى (بهويته) الدينية التي يراها الأقدس والأفضل والأنقى على كل ما سواها من هويات دينية أخرى، وهي في النهاية مرجعيته في كل مناحي حياته وهي الإطار الذي يحدد من خلاله علاقته بالآخرين وبالعالم..!!
فكيف نتعرف على (المسلم) إلا من خلال تقديسه الكامل والمطلق لرموزه الدينية وتاريخه وتراثه الديني ومنقولاته الروائية وكل ما يتعلق بدينه فهو فوق النقد مها كان نوع النقد..!!
وكيف نستطيع أن نفرق بين (المسلم) وبين غيره من الخلق سوى أن الله قد ضمن له الجنة لأنه متمسك بدينه ولغيره من الناس النار والحجيم والعذاب الأبدي..!!
نعتقد ولا نزال إننا (الصح) وغيرنا على خطأ ليس لأننا استرشدنا طريق العصر والعلم والحضارة بل لأن ديننا الذي نعتنقه نتصور أنه يعصمنا عن الزلل والخطأ..!!
لذلك أقول وبكل تأكيد أن ما حدث من ردة الفعل الإسلاموية لها ما يبررها أيديولوجياً لأن الأمة التي لا تملكُ سوى تراثها الديني هويةً كاملة لها وترهن كل حاضرها ومستقبلها لهذا التراث ولهذه الهوية فمن الطبيعي أنها لا تقبل أي مساس بها..
برأيي أن المشكلة تكمن هنا في هذا التمترس المحكم والدفاع المستميت عن خط الدفاع الأول والأخير والتخندق فيه، وهو كل ما له علاقة مباشرة بالهوية والتراث الديني فكل ما يملكه العالم الإسلامي هو (دينه) الذي يشكل هويته التاريخية والتراثية والمستقبلية. وهي الهوية التي تفعمه بالزخم المعنوي وتغمره بالسعادة في الدنيا والآخرة، وهي في نهاية المطاف تمده بشعور الاطمئنان لمشروعية وجوده في هذه الدنيا الفانية..
ويصبح مفهوماً حينها اللجوء والتمترس خلف الهوية الدينية والذود عنها بالغالي والنفيس واعتبارها الملاذ الأول والأخير والعمل على حمايتها من أي خدش، لأنها لا تملك غيرها من (هوية) وفي مقابل ذلك نجدها غارقة بالمشاكل والآفات والسلبيات والتخلف، فتلجأ للتشبث بالهوية الدينية كتراث وتاريخ وحاضر ومستقبل، تخفي خلفها الأمراض والتخلف والتدهور والمشاكل..
الغربيون ذهبوا بعيداً في مسارات التقدم والتطور والرقي، لأنهم لم يعتبروا (الدين) خط الدفاع الأول والأخير عن وجودهم وحاضرهم ومستقبلهم، بل آخر ما يفكرون فيه هو الاعتقاد بأن الهوية الدينية هي مرجعيتهم الحضارية في تقدمهم وحلول مشاكلهم وصنع غدهم ومستقبلهم، وما قاموا به من فصلهم التام بين ما هو ديني وما هو عصري وبين ما هو ديني وما هو سياسي وبين الدين الذي يعتنقه الفرد (كنظرية) قد تبدو في المفهوم العام مثالية وبين مسلكه العام في الحياة (كتطبيق) لها كان له الأثر البالغ في فهمهم للحياة والواقع ومتطلبات العصر وضرورات المستقبل، ولم نعرف من الغربيين تعلقهم بالهوية الدينية كدافع يدفعهم للأمام وقد تجاوزوا بمراحل كبيرة ماضيهم الكارثي وتاريخهم الظلامي الذي كان يتمترس خلف الدين والمآسي التي تسبب بها من جراء الدفاع عنه كرصيد وحيد وهوية يجب أن لا تمس، فهويتهم التي يتفاخرون بها بعد عصور الظلام هي الهوية الحضارية والهوية العلمية والهوية الفكرية وهوية القانون والدستور وهوية المواطنة الكاملة التي تحقق للفرد كامل حقوقه بغض النظر عن معتقداته الدينية وخلفياته العرقية، ونجد احتفاليتهم الدائمة ببناء مؤسسة علمية تساهم في رخاء مجتمعاتهم وتوفير حياة هانئة وسعيدة لهم ولغيرهم من أمم الأرض من خلال اكتشافاتهم العلمية الطبية والتكنلوجية التي ساهمت في رفع المعاناة عن شعوبنا، بينما أمتنا تركز احتفاليتها على بناء مسجد أو حسينية وعلى تخريج دفعات من أئمة المساجد وأئمة الدعوة الإسلامية..
وفي الوقت الذي انصرف فيه الغرب لمتابعة تقدمه وتطوره ورخاء مجتمعاته لا نزال نحن نراقبه ونتربص به ونتتبع سقطاته (الأخلاقية) وكأننا أمة ملائكية طاهرة خالية من الهنات والسلبيات ودائماً ننظر إلى الغربيين من منظورنا الأخلاقي ومعاييرنا نحن، بينما الحقيقة أن منظومتهم الأخلاقية تنسجم مع ثقافتهم في الحياة ويمارسونها في مجتمع حر وتحت الشمس..
انظروا إلى النزاعات الشرسة التي تفتك بالجسد الإسلامي هنا وهناك، هل هي مثلاً بسبب الصراع على الموارد المائية وسباق العلم والحضارة وبسبب السيطرة على مناطق النفوذ الإقتصادي..؟؟
كل النزاعات التي تحدث على مسرح الصراعات الإسلامية الإسلامية هي نزاعات (مذهبية) فقط للتأكيد على الهوية الدينية، للتأكيد على الهوية الأجدر والأحق في الحكم والسيطرة والتسلط والقيادة..!!
ومن الطبيعي في مجتماعتنا التي لا تملكُ سوى الهوية الدينية رصيداً وحيداً في حياتها وتتمحور حولها في كل حركة وفعل وقول أن تشهد هذه الصراعات فصولاً شديدة في الفتك والتدمير والسيطرة..
ربما ينعتني أحد من القراء بالمبالغة في تشخيص الحالة التي نحن عليها، فهناك الكثير من الأمم تستند في أفعالها على ابراز هويتها الدينية، لا بأس ولكن في ذات الوقت نجدها أمماً صانعة للحياة الحديثة ومنتجة في أكثر من مجال وليست مثل أمتنا التي تضع الهوية الدينية أولاً وقبل كل شيء ولا تملك غيرها وفي ذات الوقت لا تجيد صنع الحياة العصرية وليست منتجة وغارقة في الخرافات والأوهام..!!
ولعل المضحك في الأمر إننا نتصور أن دعوات المقاطعة التي تتزعمها تيارات المتاجرة بالدين سوف تصيب تلك الدول المتقدمة بالفقر والتدهور الإقتصادي وكأننا الأمة التي لا تعاني أساساً من الجوع والفقر والتخلف الإقتصادي..
بالفعل نحن أمة مجنونة بدينها على حد قول الدكتور أحمد البغدادي..
محمود كرم ـ كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com
المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط